السبت, 22 نوفمبر 2025 10:22 PM

فيروز تُتم عامها التسعين: صوت لبنان الصامد في وجه الزمن

فيروز تُتم عامها التسعين: صوت لبنان الصامد في وجه الزمن

زينب اسماعيل: تسعون عامًا من الشوق والعزيمة والصمت العميق الذي يحمل في كل نغمة وطنًا. إنها رحلة صوت لا يعرف الشيخوخة، ورمز لذكرياتنا ولحظاتنا الخالدة. في خضم التغيرات المتسارعة التي يشهدها لبنان، تبقى فيروز، هذه المرأة، شامخة تتجاوز الزمن دون أن تَهرم.

اليوم، تحتفل فيروز بعيد ميلادها التسعين، لتصبح بذلك جزءًا لا يتجزأ من تاريخ لبنان وعمره المديد. تسعون عامًا من الصوت، والصمت، والوقوف الشامخ بين النور والظل، مع كرامة لا تلين، وقدرة فريدة على تحويل اللحظات العابرة إلى ذكريات دافئة تلامس قلوب الناس وكأنها ملك لهم وحدهم.

ولدت نهاد حداد في عام 1935 في بيروت المتواضعة، في فترة كانت تبحث فيها عن هويتها. صوتها، الذي انطلق خجولًا من أحد الأزقة الضيقة، أصبح فيما بعد واحدًا من أهم الأصوات في العالم العربي. في الأربعينيات والخمسينيات، عندما دخلت الإذاعة وانضمت إلى مسيرة الأخوين رحباني، انفتح أمامها عصر جديد: أصبحت الأغنية بيتًا، والمسرح وطنًا بديلًا، والخيال مساحة لحماية بلد يتصدع، ونافذة يطل منها الناس على وطن يتمنونه حتى وإن كان غير ممكن بالكامل.

لكن ما قدمته فيروز لم يكن مجرد فن؛ بل كان لغة. لغة تشبه نور الصباح الذي ينساب فوق القرى، وتشبه الحجارة القديمة التي تختزن حياة كاملة، وتشبه رائحة الخبز التي تعيد الإنسان إلى جذوره مهما ابتعد. كان صوتها بمثابة وعد صغير بالاطمئنان، وعد يدرك الناس أنه قد لا يتحقق، لكن وجوده وحده يكفي لجعل الأيام أقل قسوة.

مع الأخوين رحباني، أصبحت فيروز رمزًا للبنان الذي يسعى جاهدًا للظهور بمظهر جميل مهما اشتدت الصعاب، وشاعرًا مهما تفاقمت جراحه، وعنيدًا حتى لو كسرت أجنحته. أصبحت الغابة والضيعة والشارع والحلم، وأصبح الناس يستمعون إليها ليجدوا أنفسهم، لا للهروب من الواقع فحسب.

ثم جاء زياد الرحباني، الذي لم يكتفِ بإكمال الأسطورة، بل أعاد كتابتها بجرأة. قدم فيروز كصوت جريء يقترب من الحقيقة دون خوف، ويغني عن الخسارة بصدق لا يعرف التجميل. في أعماله، أصبحت فيروز امرأة تعرف وحدتها جيدًا، لكنها تحولها إلى موسيقى سامية، وإلى حنين لا يعتذر، وإلى حزن يشبه النور أكثر مما يشبه الظلام.

طوال حياتها، عُرفت فيروز بقوة شخصيتها. امرأة قليلة الكلام، كثيرة المواقف، تختار الصمت لأنه أبلغ من ضجيج العالم. تبتعد عن السياسة لا لأنها محايدة، بل لأنها تدرك أن صوتها أثمن من أن يُستغل. وفي أوج الحرب، عندما انقسم الناس والبيوت، بقي صوتها المساحة الوحيدة التي لا تُقاس بالرصاص.

لم تظهر فيروز كثيرًا في العقود الأخيرة، لكنها لم تغب يومًا. يكفي أن تُسمع أغنيتها في شارع هادئ لتضيء الذاكرة بأكملها. اليوم، وهي في التسعين، لا تزال فيروز تجسد ما أصبح نادرًا: رقة بلا ضعف، وصمتًا يحمل قوة كاملة، ووضوحًا يشبه الحقيقة عندما تُقال بلا خوف. وكأنها تقول إن الزمن يشيخ، لكن الأصوات التي ولدت من الطهارة لا تشيخ أبدًا.

عيد ميلاد فيروز ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل هو تذكير بأن لبنان، مهما انكسر، لا يزال يملك ما يحميه من النسيان. وأن صوتًا واحدًا، من امرأة واحدة، استطاع أن يكون وطنًا كاملًا عندما غاب كل شيء آخر. وفي صباح لا ينتهي، يعود صوتها كما يعود الدعاء القديم: هادئًا، ثابتًا، يقول للناس جميعًا: "بعدك على بالي…"

(أخبار سوريا الوطن2-الحوار نيوز)

مشاركة المقال: