بقلم: ملاك حمود
بسهولة لافتة، شقّ دونالد ترامب طريقه نحو ولاية رئاسية ثانية، يبدو الثابت الوحيد فيها هو مغادرته منصبه في نهايتها، تاركًا إرثًا غير واضح المعالم، في ظل انقسام يتسلل بسرعة إلى صفوف قاعدته اليمينية، خاصة بين جناحيها: تيار "أميركا أولاً" التقليدي الداعي إلى الانكفاء، وتيار ترامب الذي يرفع شعار "لِنُعِد إلى أميركا عظمتها" (ماغا).
ومع انقضاء السنة الأولى، يبدو أن العالم سيظلّ رهينة توقيت الرئيس الأميركي ومزاجه المتقلب لثلاث سنوات قادمة، تتخللها انتخابات التجديد النصفي للكونغرس العام المقبل. نتائج هذه الانتخابات، في حال فوز الديمقراطيين بأحد مجلسي النواب والشيوخ أو كليهما، ستحدد مسار النصف الثاني من الولاية، وتعيد الضوابط المفروضة على السلطة التنفيذية إلى مستوياتها التاريخية، خاصة فيما يتعلق بـ"حماية الصلاحيات التشريعية".
يتفق مؤيدو ترامب وخصومه على أن سنته الأولى في البيت الأبيض اتسمت باضطرابات غير مسبوقة، بدءًا من اختياره مستشاريه وأركان إدارته – الذين يصفهم أستاذ العلوم السياسية في جامعة "ديوك" الأميركية، بيتر فيفر، بـ"وكلاء الفوضى" - على أساس الولاء والقدرة على حشد قاعدته الانتخابية، وصولًا إلى استنزاف الولايات المتحدة لرصيد قوتها في العالم، وإصرار الرئيس على "استعادة العظمة" بدلًا من "تنظيم التراجع" الذي تبناه في ولايته الأولى.
وما لا يندرج ضمن "العجائب" الكثيرة، يمكن إدراجه ضمن التوقعات الكثيرة أيضًا. كان متوقعًا حدوث شرخ في العلاقات المدنية – العسكرية في الولايات المتحدة، بعدما خلص ترامب، في نهاية ولايته الأولى، إلى أن الجيش جزء من "دولة عميقة" تسعى إلى تقييده، معلنًا عزمه على "تطهير" المؤسسة، وهو ما فعله. علمًا أن القادة العسكريين حازوا حصة وازنة من تعيينات المدة الأولى، إلى أن قرر الرئيس أن ثقته تلك كانت في غير محلها. وتحقيقًا لوعده، أقال ترامب، منذ عودته إلى البيت الأبيض، نحو 15 ألفًا من الضباط الكبار، أغلبهم من النساء وذوي البشرة الملونة.
ومع أن هذا "الفصل الافتتاحي" لم يكن مفاجئًا، جاءت التطورات اللاحقة أسرع وأعمق مما قدره كثيرون، بعدما تمكن الرئيس الحالي من إحداث صدمة على ثلاث جبهات: نشر الجيش داخل الولايات المتحدة، وتحويل نصف الكرة الغربي إلى مسرح أساسي للسياسة الخارجية، وإجبار الكونغرس على التخلي عن بعض صلاحياته. ففي ملف الهجرة، انتهج الرئيس الجمهوري نهجًا صارمًا عبر إشراك "الحرس الوطني"، وأحيانًا "المارينز"، في عمليات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وأرسل آلاف الجنود إلى مدن كبرى مثل شيكاغو ولوس أنجليس وممفيس وبورتلاند وواشنطن، مهددًا مرارًا بتفعيل "قانون التمرد"، أي إطلاق أيدي الجيش في مهام إنفاذ القانون.
ومع أن رؤساء سابقين لم يوفّروا "الحرس الوطني"، إما بسبب كوارث طبيعية أو على خلفية أحداث ضخمة، فإن ما فعله ترامب، مثّل من وجهة نظر فيفر، في "فورين أفيرز"، "تجاوزًا للخط الأحمر"، عبر وضع الجيش في صلب الصراعات الحزبية؛ علمًا أن دور هذا الأخير يقتصر دستوريًا على تقديم المشورة فحسب. وفي غياب تفسيرات واضحة حول الغرض من نشر القوات العسكرية في المدن الأميركية، التي صودف أنها جميعها ديمقراطية، تُطرح سيناريوات من قبيل أن الخطوة هي "بروفة" لعمليات نشر عدوانية مصممة للتأثير في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في 2026، والرئاسة في 2028، إن لم يكن للتدخل فيها، ما من شأنه أن "يهدد نزاهة النتائج، ويزج بالجيش في الصراع السياسي" المنفلت.
كذلك، مثّلت "الحرب على المخدرات" مفاجأة العهد الثاني لترامب؛ فما كان يُعتقد أنه مجرد استعارة، تحول إلى حرب حقيقية، مسرحها أميركا الجنوبية، حيث تصعّد واشنطن عملياتها العسكرية العدوانية، في موازاة اتباعها دبلوماسية قسرية ضد نظام الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو. وإذ تشن الولايات المتحدة ضربات متكررة وقاتلة على سفن "تهرب المخدرات" – كما تقول – في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، تُظهر الإدارة الجمهورية كل الدلائل على سعيها إلى تغيير النظام في فنزويلا، في ما يمثل تحولًا جذريًا في نهج ترامب، الذي لا يفتأ يكرر أنه في مهمة لإنهاء الحروب وتعميم السلام في العالم. كما أن مساعي واشنطن إلى تدمير دولة في أميركا الجنوبية بالقوة العسكرية، تنطوي على مفارقة خطيرة قياسًا على منظور ترامب، باعتبار أن من شأنها أن تزيد مباشرة من تدفق المهاجرين عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
هكذا، يبدأ الرؤساء ولاياتهم الثانية بطموحات كبيرة، على افتراض أنهم لا يحتاجون إلى منحنى التعلم نفسه الذي يحتاجه الرؤساء في ولاياتهم الأولى، خصوصًا إذا كانت للرئيس سيطرة هائلة على قاعدته الناخبة وحزبه. لكن، مع تذبذب أجندته بين السياسات المتعارضة، وتراجعه عن وعود حملته الانتخابية، كما في استمراره في تسليح أوكرانيا مقابل وعده الانتخابي بوقف تسليحها، وتشدده مع الصين، مقابل تعهده بإبرام صفقة تجارية معها، وضرب الخصوم في مسارح متعددة رغم شعار إنهاء الحروب الدائمة، هوت شعبية ترامب من 48% في أيار الماضي، إلى 40% في تشرين الثاني الجاري، وفق استطلاع للرأي نشرت نتائجه "رويترز/ إيبسوس".
ومع مضي العام الأول، تبدو السنوات الثلاث المقبلة مفتوحة على المجهول؛ فعلى المستوى المحلي، زعزع ترامب توازنات العلاقات المدنية – العسكرية والضوابط الدستورية، ما أثار قلقًا حول مستقبل النظام الدستوري. مع هذا، فإن الاتجاهات في الداخل الأميركي ليست نهائية؛ فإذا استعاد الكونغرس دوره الرقابي، قد تأخذ ولايته، في نصفها الثاني، منحىً مختلفًا بشكل جذري، خاصة إذا فاز الديموقراطيون بأحد مجلسي الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي (2026). ويعزز من ذلك الاحتمال، الفوز الكبير الذي حققه هؤلاء في الانتخابات المحلية في الرابع من الجاري، إذ بدا بمثابة استفتاء ورد على حصيلة الأشهر الـ10 الأولى من رئاسة ترامب الثانية، التي كانت مردوداتها دون الموعود. وحصد الحزب الديمقراطي أربعة مناصب بارزة: حاكم فيرجينيا (امرأة) بفارق 15%، والمدعي العام في الولاية بفارق 7%، وحاكم نيوجيرسي (امرأة) بفارق 13%، فيما شكل الحدث الأبرز فوز زهران ممداني، برئاسة بلدية مدينة نيويورك.
لا يبدو الوضع أفضل حالًا على المستوى الدولي، إذ اعتمدت الولايات المتحدة، ولمدة طويلة جدًا، على القوة والنفوذ اللذين بنتهما في حقبة ما بعد الحرب الباردة، للحفاظ على "سلام القوى العظمى". وفي ظل استنزاف هذه الاحتياطات، وتصدع المؤسسات التي ركنت إليها أميركا، لبناء قوتها وإدارة النظام العالمي، فإن ما يأتي تاليًا يظل في مدار التخمين. وتستفيد من هذا الصدع، ومن انشغال ترامب في نصف الكرة الغربي، الصين – بصفتها المنافس الأكبر لأميركا -، لتعزيز حضورها في آسيا، حيث الفرص الاقتصادية الهائلة. وفي ما لو استمر النهج القائم على حاله، فإن استنزاف ترامب للقوة الأميركية في العالم، من شأنه أن يفسح المجال أمام قيام نظام جيوسياسي جديد، تسيطر فيه "الأطراف المعادية"، أو في أحسن الأحوال "غير المبالية" بمصالح الولايات المتحدة، على مناطق نفوذ شاسعة، ستتصادم في ما بينها، في ما سيكون شأنه تعظيم احتمالات "حرب القوى العظمى".