تأخذنا رواية "قلعة الملح" للكاتب السوري "ثائر الناشف" في رحلة معقدة تتخطى حدود الزمان والمكان، لتضع القارئ أمام تداخل تاريخي وإنساني عميق بين موجتين من اللجوء والبحث عن الذات، تفصل بينهما حربان عالميتان وواقع الثورة السورية.
تعتمد الرواية، الصادرة حديثًا عن دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق، على ضمير المخاطب في السرد، متتبعة حياة "سامي"، الشاب الحلبي الذي يجد نفسه لاجئًا في النمسا هربًا من الخدمة العسكرية في الجيش السوري إبان ثورة 2011.
تبدأ رحلة "سامي" الصعبة كموظف لرعاية المسنين في دريسدن، لكن طموحه الأكبر يتجاوز مجرد البقاء، إذ يسعى للبحث عن جذوره المفقودة. يرى الناقد والشاعر السوري "ابراهيم اليوسف" في تقديمه للعمل أن الكاتب "الناشف" يفاجئنا في روايته الجديدة "قلعة الملح" بنقلة نوعية في تقنيات السرد، مقدمًا عوالم جديدة، وأمكنة مغايرة، وأدوات مبتكرة وقدرة على التجديد. ويقوم بتحويل التفاصيل اليومية إلى لوحة فنية تعكس تناقضات البشر وهشاشتهم، مصاحبًا القارئ في رحلة فكرية تحيله إلى دلالات ومعاني الحياة والانتماء.
ويضيف "اليوسف" أن "قلعة الملح" شهادة ووثيقة إبداعية على أدب يُكتب بصدق ورؤى مستجدة وتأمل في طبيعة الوجود البشري وقدرة الأدب على التقاط أعمق تناقضات الحياة.
يكمن التفرد البنيوي للرواية في التنقل السردي بين مصير "سامي" (الحفيد) ومصير جده الألماني اليهودي. هذا الجد، الذي هرب من ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى ومن التجنيد النازي لاحقًا، انتهى به المطاف مسلمًا في حلب، ليصبح مواطنًا سوريًا. باستخدام مذكرات الجد، يكشف "سامي" عن ماضٍ معقد: جدٌّ جُرَّ إلى الجيش النازي، ثم وقع في قبضة عسكري روسي مسلم داغستاني، ليختار الإفلات من جحيم الحرب واعتناق الإسلام، قبل أن يجد طريقه إلى حلب. هذا التشابك يجعل من "قلعة الملح" (الاسم القديم لبلدة الجد في النمسا) مجرد رمز جغرافي، بل رمز للتحولات الكبرى التي تصنع الهوية وتعيد تعريف الانتماء.
لا تكتفي الرواية بالغوص في التاريخ، بل ترسم بصدق وقسوة واقع اللجوء الحديث. يواجه "سامي" في النمسا مشاعر العنصرية والتنمر، وتأخيرًا في الحصول على حق اللجوء بسبب وشايات كاذبة. ورغم نجاحه في تعقب أهله الألمان، يواجه النكران والرفض؛ فالعائلة كانت قد أعلنت عن مقتل الجد كـ "شهيد" وتقاسمت تركته، الأمر الذي يجعل "سامي" يندم على بحثه عن هذه الجذور. وهذا المسار يكشف عن حقيقة مُرّة: إن أمراض الطمع والجشع ونكران الأهل ليست مقتصرة على مجتمع دون آخر. فكما يصفها الغلاف الخلفي، هي رواية تأخذنا في رحلة "تتقاطع فيها الذاكرة مع المنفى، وتتواجه فيها الأسئلة الوجودية".
وتنتهي رحلة "سامي" المؤلمة بالعمل المضني، وتأجيل حلمه بلم شمل أطفاله في لبنان، ليصبح مصير بطلنا رمزًا لمآلات اللجوء: "الكل يفقد هويته الأصلية ويبحث عن هوية بديلة... والآخر لا يتقبله وأن تقبله فيكون بشروطه ووفق معاييره ومصالحه. والكل ضحايا".
وتأتي هذه الرواية لتشعل حوارًا حول ثمن الثورات وآثار اللجوء والتعايش، وستكون محور ساعة نقاش ثقافية في "حديث النمسا" يوم الأحد الموافق 16 نوفمبر 2025، السادسة مساءً بتوقيت فيينا، بمشاركة الكاتب "ثائر الناشف" والناقدين "رياض درار" و"علي الحسن"، عبر منصة INFOGRAT.
وصدر للكاتب "ثائر الناشف" المقيم في النمسا من قبل العديد من الأعمال الأدبية ومنها "خريف المنفى-يوميات صحفي في الغربة" ورواية "الكيميائي" ورواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو".
فارس الرفاعي - زمان الوصل