يعرّف الإنسان على الأرض التي يولد فيها، لكنه لا يختارها ولا يعرف أين يموت. ومع ذلك، يحصل في عمر معين على بطاقة لإثبات هويته، لكي يُعرف من هو.
في القاموس، "الهوية هي حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية، وذلك منسوب إلى هُوَ كي يتميز عن غيره". هذه هي الهوية الشخصية لكل فرد. بالإضافة إلى ذلك، تحمل (تذكرة الهوية) رقماً كبيراً، هو الرقم الوطني، الذي يدل على الوطن.
فما هو الوطن؟ هل هو مجرد جغرافيا من جبال وجرود وسهول ووديان وأنهار وتخوم وحدود ومدن وقرى؟ أم هو تراث وميراث وملاحم وأساطير وحكايات وثقافة وأدب وروايات وقصص وشعر وعادات وتقاليد؟ أم خريطة على حائط وكتاب تاريخ في مكتبة؟ أم شعب حي من روح وجسد وعظم ولحم ومشاعر وأحاسيس؟ أم هذا كله؟ حقاً، ما هو الوطن؟ ومن أين يبدأ وأين ينتهي؟ هذا الوطن الذي نحمل هويته ونفتخر بها، والتي تضرب جذوره في أعماق التاريخ قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ومن أمة هي خير أمة، كما جاء في القرآن الكريم: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر".
لكن، بصراحة، ما أن تُذكر كلمة وطن، حتى يقفز إلى الذهن قول الإمام علي كّرم الله وجهه: "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن". وهذا يذكر بقول الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري: "إذا ذهب الفقرُ إلى بلد قال له الكفرُ: خذني معك".
هل خرجت عن موضوع العنوان؟ من وجهة نظري، لا، لأن الحديث عن الهوية الوطنية والهوية الثقافية يتطلب الحديث عن (حامل) الهوية، الذي هو المواطن – الإنسان. فإذا مات حامل الهوية، ماتت هويته معه، وشُطب اسمه في دوائر النفوس (هذا على الصعيد الفردي).
فما العمل للحفاظ على الهوية الجماعية: الوطنية والثقافية؟ هذا يتطلب الرجوع إلى الشعب والمجتمع. فالشعب هو المكون الأول للوطن، بكافة أطيافه. والبحث في القضايا المهمة الكبيرة والصغيرة لهذا الشعب، جملة وتفصيلاً، بدءاً من لقمة العيش، والمسكن، والتعليم، وتأمين فرص العمل، وتكافؤ الفرص، وكل مستلزمات البنية التحتية، والأهم: الحفاظ على كرامة المواطن، لأن كرامة الوطن من كرامة المواطن.
فلا يمكن لمواطن مقموع ومقهور ومذل ومهان وجائع أن يبني وطناً. وهذا يتطلب الأمن والأمان، وسيادة القانون، والحرية، والعدالة.
وإذا عدنا إلى مكونات الهوية الوطنية – الحضارية والثقافية، أقول: يحق للمواطن السوري أن يفتخر بهويته السورية – الحضارية التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ. وأذكركم بقول عالم الآثار الفرنسي شارل فيرلو الذي فك رموز أبجدية أوغاريت في تل شمرا قرب اللاذقية: "لكل إنسان وطنان، وطنه الأم وسورية". ولا أعرف إنْ كان عالم الآثار الفرنسي هذا أن الأسكندر الأكبر المقدوني قد سبقه إلى ذلك، فحين وصل الأسكندر إلى سوريا وأقام معسكره بين اللاذقية وانطاكية بالقرب من نبع ماء فياض، وعندما شرب من هذا النبع، قال: "ماء هذا النبع يذكرني بحليب أمي – سوريا هي وطني الثاني". وكان ذلك عام 333 قبل الميلاد. من غير أن ننسى مملكة ماري وإيبلا وآفاميا وتل مرديخ وتدمر وبصرى.
بالإضافة إلى ذلك: من سوريا انطلقت رسالة السيد المسيح عليه السلام إلى العالم. ومن سوريا أيضاً انطلقت رسالة سيد المرسلين – رسالة الإسلام شرقاً حتى السند والهند والصين، وغرباً إلى اسبانيا وفرنسا، وشمالاً حتى آسيا الوسطى وروسيا. من سوريا، انطلقت أولى المسرحيات، قبل أن يعرف العالم ما هو المسرح. ففي كتابه (تاريخ سورية)، يؤكد هذا المؤرخ فيليب حتي.
وإذا كانت السياسة والاقتصاد توأمين لا ينفصلان، فهل يمكن فصل الثقافة عنهما؟ لقد تم تعريف الثقافة قديماً وحديثاً، ومن المفيد تحديد معنى كلمة "ثقافة"، لما لهذه الكلمة في الأذهان من دلالات مختلفة من خلال استخدامها في شتى مناحي الحياة. لكن الذي يجب معرفته الآن، أن كلمة "ثقافة" عند العرب، ارتبطت بالوطنية. والمفهوم الصحيح للثقافة الوطنية كان يُحدد من الصراع بين الثقافة الوطنية والثقافة الاستعمارية. إذ لم يكن يُنظر لمفهوم الثقافة الوطنية من زاوية ما يحمله المثقفون من معارف وعلوم – حسب د. محمد عابد الجابري.
فمن المعروف، أن الاستعمار لا يسعى للسيطرة الاقتصادية والهيمنة السياسة والإستيطانية فحسب، بل يسعى لفرض ثقافته، وطمس معالم الثقافة الوطنية، ومن غير طمس الثقافة الوطنية لا يستطيع الإستعمار أن يفصل الشعب عن ماضيه وعن حضارته وحتى عن انتمائه، وإلغاء ذاكرته. وبهذا الصدد يجب أن نتذكر (إعلان مكسيكو- بشأن الثقافة عام 1982). حيث عُقد مؤتمر عالمي معني بالثقافة والسياسات الثقافية، وقد حضره 460 مشاركاً من 126 دولة، وقد أجمع المؤتمر على رفض الترتيب التنازلي في الثقافات. إذ لا يوجد ما يسوغ التمييز بثقافات أعلى منزلة وثقافات أدنى منزلة، وتم التأكيد على احترام جميع الثقافات، كما شدّد على الهوية الثقافية التي تعني الدفاع عن التقاليد والقيم الأخلاقية والفكرية والعاطفية والتاريخية.
وقد تم تعريف الثقافة وفق إعلان مكسيكو كالتالي: ((إن الثقافة بمعناها الأوسع، هي مجموعة السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، والإنتاج الاقتصادي، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظُم القيم والأعراف والتقاليد والمعتقدات)). أما مستويات الهوية الثقافية فهي: فردي، وجماعي، ووطني.
لذلك دائماً أقول: إن الإبداع عمل فردي، أما الثقافة فهي عمل جماعي. فمن أجل خلق أو تجديد الثقافة الوطنية وفق هذا المفهوم، يفترض العودة إلى الشعب والمجتمع، وإجراء دراسة شاملة كاملة لأحوال المواطن في المجتمع، وتكون الدراسة بمثابة عملية سبر حقيقية: اجتماعية، اقتصادية، سياسية، تربوية، ثقافية تشمل كافة أطياف المجتمع ومكوناته: الحزبية منها والدينية، ليتم استنتاج الحلول والوصول إلى حاجات المواطن وتطلعاته.
وهنا، لا بد من ذكر مهددات الهوية الوطنية والثقافية أيضاً: الفقر الذي يوّلد الجهل. التطرف الذي يؤدي إلى التعصب، والتعصب الذي يؤدي إلى العمى ثم إلى ارتكاب الجرائم وتطبيق عملية إقصاء الآخر وإلغائه. عدم سيادة القانون، وتفشي المحسوبيات، والفساد بكافة أشكاله الذي يؤدي إلى الظلم والرشوة والاستغلال وانعدام العدالة والمساواة. غياب الأمن والأمان، وانتشار النزعات الطائفية البغيضة والقبلية والعشائرية غياب الاستراتيجيات التنموية، غياب تكافؤ الفرص، وتزايد البطالة وانسداد آفاق المستقبل بوجه الأجيال الشابة – هذا كله يهدد الهوية الوطنية، ويوّلد شعوراً عميقاً بالظلم والإحباط، وبالتالي يُضعف الشعور بالإنتماء للوطن ويجعله بيئة طاردة وهذا الذي يُجبر الناس على الهجرة. وهنا لم يُعد للهوية أي قيمة.
ويقال: إن تجليات الهوية الوطنية ومكوناتها هي: – حب الوطن – الإنتماء – الولاء وفي يقيني أن رفع الشعار أمر، وفي الواقع أمر آخر. فالحب أياً كان .. شعور وسلوك وتصرف قبل أن يكون كلاماً أو شعاراً. والسؤال هنا: هل (حب الوطن) لدى الغني مثله عند الفقير؟! وعلى سيبل المثال: هل يدافع حارس فقير وجائع عن قصر فخم سافر أصحابه للإستجمام والسياحة في مونتي كارلو أو الريفيرا أو ليجربوا حظهم بالقمار؟!
فكيف لك أن تحب وطناً أو تدافع عنه، وليس لك فيه بيتاً يؤوي أطفالك، وليس لك فيه مساحة مغرز إبرة؟ وغيرك يمتلك العقارات والمتاجر والأموال و . و. وفي رأيي، ومن أجل تعزيز الهوية الوطنية وتمكينها، من الضروري تلبية الحاجات الماسة للمواطن:
1 – إعادة هيبة المعلم – معلم المدرسة. صاحب الضمير المسلكي. وهو كفيل بالتربية الوطنية الصحيحة والأصيلة. المعلم الذي كان في أربعينات وخمسينات وستينات القرن الماضي.
2 – إعادة كرامة المواطن – الإنسان .. فكرامة الوطن من كرامة المواطن.
3 – إلغاء وسائط النقل الداخلية – السرافيس، واستبدالها بباصات كبيرة كما كانت في الماضي. فدخول المواطن على هذه السرافيس منحنياً وخروجه منحنياً، فًقًدً خلال أربعين عاما كرامته وشجاعته، وجعله في خانة المذلين المهانين.
4 – سيادة القانون – تطبيق القانون على الجميع. وتعزيز حصانة القاضي، أي تجعله غنياً عن الرشوة، وبعيداً عن الإملاءات والمحسوبيات.
5 – إيقاف التلاعب بلقمة عيش المواطن
6 – لجم غول الغلاء المتوحش الذي زاد الفقير فقراً، والغني غنىً.
7 – وضع حد لجشع التجار.
8 – الحاجة الماسة إلى الوعي بالحرية .. والوعي بالديمقراطية.
9 – إلغاء التعليم الخاص، في المدارس، وفي البيوت، وفي الجامعات التي تعتمد على الحصول على المال وتفريخ خريجين بواسطة المال لا بقدرة الطالب وجهده و اجتهاده.
10 – ردم الفجوة بين المواطن و المسؤول. والأهم، معالجة الروتين والبيروقراطية، ومساعدة المواطن، وعدم عرقلته والمماطلة والتسويف بمعاملات المواطنين من أجل الابتزاز والرشوة.
11 – إعادة الطبقة الوسطى، فهي الرافعة الحقيقية للثقافة، وحاملة الهوية الوطنية والثقافية.
أقول قولي هذا، من غير أن يغيب عن البال دور المواطن نفسه، ودور المثقف أيضاً، لكن الأمر يبقى بيد من يملك القرار والإرادة.
وأخيرا أعود إلى ما بدأت به: إن الإنسان لا يختار وطنه، و لا دينه، و لا طائفته، حتى ولا اسمه. يقول سيد المرسلين الرسول الأعظم (ص): “يولد المرء على الفطرة، فأهله يهودانه أو يمجاسنه، أو ينصرانه” وفهمكم كاف .. والسلام عليكم.
(اخبار سوريا الوطن-1)