الخميس, 30 أكتوبر 2025 11:53 PM

واشنطن تضع قواعد جديدة للاشتباك في غزة: تهدئة مدارة بالتصعيد المدروس

واشنطن تضع قواعد جديدة للاشتباك في غزة: تهدئة مدارة بالتصعيد المدروس

يحيى دبوق: على الرغم من أن التصعيد الإسرائيلي قد يبدو دليلًا على هشاشة التهدئة في قطاع غزة، إلا أنه في جوهره جزء من محاولة لاستغلال حادثة رفح لترسيخ تهدئة مستدامة، تُدار عبر تصعيد محسوب وفقًا لشروط تحددها واشنطن وترعاها بدقة.

لم يعد وقف إطلاق النار في غزة مجرد تهدئة هشة، بل ساحة اختبار لمدى قدرة الأطراف، خصوصًا حركة «حماس»، على التكيف مع قواعد اشتباك جديدة ترسم معالمها الولايات المتحدة.

تصريحات نائب الرئيس الأميركي، جيه دي فانس، التي أكد فيها «استمرار» الهدنة وتوقع ردًا إسرائيليًا على أي خرق، تعبر ليس فقط عن دعم تكتيكي لتل أبيب، بل عن رؤية إستراتيجية ترى في المرحلة الانتقالية بعد الحرب فرصة لإعادة ترتيب قواعد الاشتباك لمصلحة الأمن الإسرائيلي، لا التوازن الميداني.

ينعكس هذا التوجه بوضوح في الواقع الميداني، فالمساعي الإسرائيلية لتوسيع نطاق انتشار الجيش داخل مناطق كان متفقًا على إخلائها، لا يمكن فهمها بمعزل عن الغطاء السياسي الذي توفره واشنطن لتل أبيب.

على الرغم من خطابها المتكرر عن «الاستقرار» و«الحل الدائم»، تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل بإعادة تعريف مفهوم «الامتثال» للهدنة، بحيث يصبح أي نشاط عسكري إسرائيلي، حتى لو تجاوز الخطوط المعلنة، جزءًا من «الرد المشروع» على انتهاكات يُفترض أن «حماس» ارتكبتها.

النتيجة هي واقع غير متكافئ، فبينما يُطلب من الحركة الالتزام الحرفي بكل بند، يُمنح الجيش الإسرائيلي هامش تفسير واسعًا، بدعم أميركي صريح أو ضمني، يتيح له توسيع نطاق عملياته دون أن يُعد ذلك خرقًا للاتفاق، طالما أنه تحت سقف استئناف الحرب نفسها.

يمكن النظر إلى هذه الديناميكية على أنها انعكاس طبيعي لتوازن القوى بين طرفين غير متكافئين، خاضا حربًا بلا ضوابط لعامين كاملين، لكنها تكشف عن تحول أعمق، وهو انتقال مركز القرار الإستراتيجي من تل أبيب إلى خارجها.

على الرغم من القدرات العسكرية الهائلة التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي، فإن يده ليست مطلقة تمامًا، لا في المبادرة ولا في الرد، بسبب وجود رقابة سياسية خارجية فعالة.

في الكواليس، يُنظر إلى الوجود الأميركي جنوب إسرائيل، وخصوصًا في مركز التنسيق في كريات غات، باعتباره «غرفة تحكم» تحدد متى يُسمح لإسرائيل بالرد، وأين، وبأي شدة. وفي هذا السياق، لم يعد «الكابينت» الإسرائيلي صانع القرار النهائي، بل جهة تنتظر الضوء الأخضر من واشنطن قبل اتخاذ خطوة جوهرية، بل وأيضًا تكتيكية.

من هنا، بدأت تظهر دعوات داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لاستعادة المبادرة عبر وسائل لا تعتمد على التنسيق العلني، مثل خلايا تكتيكية سرية، وبنك أهداف جاهزة للتنفيذ الفوري، أو عمليات دقيقة لا تترك مجالًا للتدخل الخارجي.

على الرغم من «الامتعاض» في إسرائيل، إلا أن الهدف الأميركي لا يمثل ترجمة لموقف معاد لتل أبيب، بل يتوافق تمامًا مع مصالحها، فقد حلت أميركا رقيبًا على القرار الإسرائيلي لضمان أن يتوافق مع مصالح «إسرائيل الدولة»، وليس الأشخاص القائمين على قرارها، وتلك واحدة من نتائج الحرب التي لم تستطع إسرائيل أن تنهيها بانتصار كامل، رغم كل الدعم والتغطية اللامتناهيين من واشنطن والغرب عمومًا.

ستكون أمام واشنطن مهمة في مرحلة ما قبل ترسيخ الحل النهائي، الذي لن يكون بالضرورة ممكنًا وفقًا لرؤية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بل بمواصفات تضمن لإسرائيل حرية الحركة الأمنية «المشروطة»، مع التشديد في المقابل على أن الطرف الآخر ملزم ومطالب بالجمود المطلق ميدانيًا بلا أي خروق، حتى وإن كانت عابرة.

في ظل هذا «التوازن»، قد لا تكون «حماس» أمام خيار صعب فقط، بل أمام مستقبل يُكتب من دون مشاركتها الحقيقية، وفقًا لشروط ومحددات ترد من خارج حدود إسرائيل نفسها. حادثة رفح والرد الإسرائيلي عليها ليسا سوى حلقة ضمن سلسلة ممتدة من العمليات الهادفة إلى ترسيخ قواعد اشتباك جديدة، قواعد لا تعلن صراحة، لكنها تفرض على الأرض، فضلاً عن أنها جزء لا يتجزأ من المرحلة الثانية من خطة ترامب لإدارة ما بعد الحرب، مرحلة قد تمتد طويلاً، بلا نهاية واضحة، وبلا حسم عسكري أو سياسي.

يشكل هذا الواقع تحديًا مضاعفًا لِمن يتخذ القرار في غزة، وللوجود الفلسطيني ككل، إذ يدخله في حرب من نوع جديد، حرب لا تدار بالمواجهة، بل بالتحمل، ولا تقاس بالانتصارات، بل بقدرة الطرف الأضعف على البقاء تحت وطأة مبادرة عسكرية إسرائيلية دائمة.

مشاركة المقال: