منذ تسلم الحكومة السورية الجديدة السلطة بعد سقوط النظام السابق، لم تتوقف التبريرات عن تفسير مظاهر الفشل والانهيار في أداء الدولة على مختلف الأصعدة، سواء الاقتصادية أو الإدارية أو الخدمية. الشعار الأبرز الذي ترفعه الحكومة، ويتبناه أنصارها، هو: "لقد ورثنا بلدًا مدمرًا ومؤسسات منهارة".
يرى غزوان قرنفل أن هذا الادعاء، رغم جاذبيته الشعبية، يمثل تغطية على جوهر الأزمة وتبريرًا لقرارات وسياسات عمقت التدهور بدلًا من إصلاحه. لا شك أن البلاد عانت من سنوات الحرب والدمار، وأن إرث النظام السابق كان مثقلًا بالخراب والفساد، لكن هل يبرر ذلك عجز الحكومة الجديدة عن تحسين الأداء أو الحفاظ على الكفاءة الإدارية؟ وهل يفسر الارتجال وغياب الرؤية والانغلاق السياسي ورفض الانفتاح على الطاقات الوطنية؟
الحقيقة التي يتجاهلها الخطاب الرسمي الجديد هي أن مؤسسات الدولة السورية، رغم كل ما تعرضت له، استمرت في العمل حتى اللحظات الأخيرة من عمر النظام السابق. الوزارات والإدارات والكوادر الفنية والمهنية استمرت في أداء مهامها. المعلمون والأطباء والمهندسون وموظفو البلديات والعاملون في مرافق الدولة بقوا على رأس عملهم، ما يعني أن الحديث عن "دولة منهارة بالكامل" مبالغة.
المشكلة الحقيقية ليست فقط في حجم الخراب المادي أو تركة النظام، بل في تعامل السلطة الجديدة مع هذه التركة ونهجها الذي اختار احتكار القرار وإقصاء كل من لا يتماشى معها، والتعامل مع البلاد بعقلية الغلبة والانتصار بدلًا من البناء والشراكة الوطنية. لقد رأى السوريون كيف تم تهميش الكفاءات الوطنية وعدم دعوة أصحاب الخبرات الإدارية والاقتصادية والدستورية للمساهمة في إدارة المرحلة، بل محاربة بعضهم أو إقصائهم بسبب عدم انتمائهم الأيديولوجي للفريق الحاكم أو تعبيرهم عن رأي مستقل.
نتيجة لذلك، أصبحت مؤسسات الدولة مجرد هياكل بلا روح، يديرها الولاء لا الكفاءة والانتماء العقيدي لا المهنية. هذا السلوك يعكس خوفًا من التعدد ورفضًا للمشاركة الفعلية وقلقًا من أي صوت معارض. فكيف يمكن لدولة أن تتعافى بينما تُقصى فيها الكفاءات ويُستبدل بها الموالون؟ وكيف لحكومة أن تطلب الصبر بينما تصر على التفرد في إدارة البلاد؟
البناء الوطني الحقيقي يبدأ بالاعتراف بمسؤولية كل طرف عن حاضره وفتح المجال أمام مختلف الأطياف للمشاركة في صنع القرار والاستفادة من كل الطاقات. سوريا زاخرة بالكفاءات، لكن غياب الإرادة السياسية للاستفادة منها هو الذي يحكم المشهد اليوم. لا يمكن للبلاد أن تنهض في ظل الإقصاء والتهميش وتأميم العمل السياسي. فالمعادلة واضحة: لا تنمية بلا مشاركة، ولا إصلاح بلا شفافية، ولا بناء بلا كفاءة.
إذا كانت السلطة الجديدة جادة في مشروعها، فعليها مراجعة رؤيتها ونظريتها في الحكم والإدارة ومراجعة قراراتها وسياساتها، وسعيها لإخضاع المجتمع قبل إلقاء اللوم على الماضي. الاستمرار في تعليق الفشل على شماعة "الخراب الموروث" لن يقنع أحدًا، لأن الناس يرون أن حجم الفشل يتجاوز إمكانية تفسيره بالإرث، بل بمن يديرون المشهد اليوم ويصرون على تولية "الشيخ" بدلًا من صاحب الكفاءة، وعلى التفرد والإقصاء وتهميش الآخر المغاير، ويكررون نفس السلوكيات التي يفترض أنهم ثاروا عليها.