شبكة أخبار سوريا والعالم/ دمشق – م. ميشال كلاغاصي: لم تخفِ الولايات المتحدة الأمريكية اهتمامها بتكريس سياساتها وتجنيد دبلوماسييها وقواتها العسكرية في ملفات الصراع على النفط والغاز. تسعى أمريكا للسيطرة على إنتاج النفط والغاز وخطوط نقله، والتحكم بأسعاره الدولية، وإقحامه في صميم أجنداتها واستراتيجياتها، وحروبها الجيوسياسية وتحالفاتها وهيمنتها، للحفاظ على عصرها الأحادي، ومقاومة رياح التغييرات الدولية وموازين القوى وولادة النظام العالمي الجديد. كما لم تخفِ أهدافها بتقديم نفسها منافساً قوياً لأقوى منتجي الطاقة ومورديها ومستورديها في آنٍ واحد، غير اّبهةٍ بخطورة وقساوة الطريق التي تسلكها عبر الحروب اللا أخلاقية، وعقوبات الرسوم والتعريفات، وإخضاع الحلفاء وإضعاف المنافسين، وبإعلانها استراتيجيةً براغماتية في خدمة “فن الممكن” لإستمرار هيمنتها على العالم ومداواة اقتصادها الجريح.
دفعت هذه الإستراتيجية الولايات المتحدة لإقحام ملفات النفط والغاز في صُلب سياساتها لشن الحروب ولفرض “سلام القوة العسكرية” كمصطلح بديل عن فرض الإستسلام والإذعان، وإعتبارها ملفات رئيسية في معادلات القوة والنفوذ وبوصلة لسياساتها المستقبلية، من خلال ديناميكية يقودها مقعد الرئاسة الممثل حالياً بالرئيس دونالد ترامب، لزيادة الضغوط على أوروبا، وإجبار الإتحاد الأوروبي للتخلي عن شراء الغاز والنفط الروسيين، والإستعاضة عنهما بالنفط الأمريكي، وبفرض الرسوم الجمركية على الصين والهند، اللتين تواصلان شراء النفط الروسي.
وافقت بروكسل، بحكم ضعفها وتبعيتها، على مطلب ترامب، ووقعت عقود شراء النفط والغاز الطبيعي المُسال الأمريكي بقيمة 250 مليار دولار، في حين أنها تقف مرتبكة خائفة حيال مطلبه بفرض الرسوم الجمركية على الصين والهند بإعتبارهما أكبر شركائها التجاريين، ووجدت نفسها عالقة بين المطرقة والسندان، وعينها على قدرة الإقتصاد الأوروبي على الصمود أمام ارتفاع تكاليف الطاقة من جهة، وردود أفعال وإنتقام العمالقة الاّسيويين من جهة أخرى.
إن وقوع بروكسل بصقورها وحمائمها في مصائد ترامب، فسح المجال أمامه لإعلان الشركات الأمريكية كقوة احتكارية قادرة على منافسة الشركات الروسية، بما يخلق نفوذاً أمريكياً إضافياً يساعد ترامب في المفاوضات مع موسكو، ويمنحه الجرأةً للمطالبة بحصته من سلاسل توريد الوقود الروسية إلى الاتحاد الأوروبي، وبفرض نفوذه على خطوط الأنابيب والتحكم بالتدفقات والتعريفات, ناهيك عن المخاوف الأوروبية من قيام ترامب بجر الإتحاد الأوروبي ودوله نحو مواجهة اقتصادية مع الصين تحت شعار معاقبة روسيا, ومن بوابة تقييد المنتجات النفطية التي تعتمدها الهند وتركيا التي تعتمد على مواد الخام الروسية ، وزيادة الرسوم الجمركية على التوريدات الصينية المتجهة نحو أوروبا.
عشية استضافة ترامب نظيره التركي في البيت الأبيض، بدا المشهد واضحاً، حيث صمت الأخير أمام تأكيد وتكرار ترامب مواقفه حول ضرورة تخلي أنقرة عن النفط الروسي، وكذلك صمت وزير الطاقة التركي أثناء توقيع شركة بوتاش التركية الحكومية عقود الغاز الطبيعي المسال، ومذكرة التعاون في مجال الطاقة النووية، على الرغم من كون روسيا تعد أكبر الموردين لتركيا، عبر أقصر طرق النقل وأقلها سعراً، وسط احتمالية توقف المصافي التركية، واضطرارها اللجوء إلى موردين آخرين.
لا يمكن تصور مدى خطورة رغبات ومطالب ترامب وضغوطه وحربه لأجل وقف إعتماد الدول على الطاقة الروسية، ولا يقتصر الأمر على أعداء واشنطن وحلفاء روسيا، فالضرر يطال كافة دول العالم، حتى من يعتقدون أنفسهم شركاء وحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، إذ لم يلق مسعى ترامب دعم وموافقة اليابان والكوريتين، وسلوفاكيا والمجر وعشرات الدول الأوروبية وغيرها، وبات الكثيرون يأملون بأن تكون تهديدات ترامب موقفاً تفاوضياً، لا ينزلق نحو التنفيذ عبر شن الحروب العسكرية.
لا يمكن لدول العالم المتضررالإعتماد على الحلول والمواقف التي يتخذها الإتحاد الأوروبي وقادته الفاسدون، خصوصاً بعد اللقاء الأخير بين ترامب ورئيسة المفوضية الأوروبية، التي خرجت لتعلن تسريع التخلي التدريجي عن الوقود الأحفوري الروسي وعن حزمة عقوباتٍ جديدة عليها.
باتت مواقف الإتحاد الأوروبي والدول الخانعة، تثير قلق الأوروبيين وغير شعوب، وتدفعهم للسؤال عن مصالح الإتحاد الأوروبي وتلك الدول التي تنصاع إلى مطالب ترامب، وماذا خطوط وأنابيب التوريد، والبنى التحتية والموانئ التي بُنيت على مدى عقود بأموال واّمال الشعوب الساعية وراء الاستقرار والعيش الكريم ودفء الشتاء، وهل يُقنعها بؤسٌ وجوع وفقر، لأجل صراعاتٍ إيديولوجية، وجيوسياسية، ومن يفوز بجائزة نوبل للسلام عبر الحروب وسفك الدماء.
في حين لا تزال وزارة الحرب الأميركية تدعو دول حلف شمال الأطلسي لشراء المزيد من الأسلحة الأميركية لدعم أوكرانيا، بغية التوصل إلى حل سلمي للصراع مع روسيا، على وقع تصريحات وزير الحرب الأميركي بيت هيجسيث: تعلمنا من ترامب “ضرورة التطبيق الفعال للسلام من خلال القوة”.
لم يعد مقبولاً إعتماد الصراعات الدولية، وحروب تغيير شكل النظام العالمي، والتلاعب بأسعار الطاقة، وتكاليف الإنتاج، وضخامة الميزانيات العسكرية، على حساب حياة البشر، لصالح خياراتٍ أصبحت تعتمدها الدول المحاربة استراتيجيةً ثابتة تختبئ وراء كافة أشكال الصراع، وتقود العالم من حيث يدري أو لا يدري، إلى حيث يجد نفسه مضطراً لسماع أصوات المدافع والإحتماء من قصف الطائرات، وتحمّل جدية التهديدات النووية، من أجل أطماع الدول وهيمنتها على حياة البشر والشعوب والدول، وسَوق أولادهم نحو الحروب والموت وأقله نحو التهجير وترك البيوت، والعودة إلى حطب الأشجار وفتيل السراج.
لا بد للولايات المتحدة والدول الهائجة من تبريد رؤوسها الحامية، والتوقف عن تصدير بدعة ترامب “السلام بالقوة”، والبحث عن الحلول العقلانية، وتوظيفها لصالح “فن الممكن”، واستبدال مصطلحات حروب الطاقة الجيوسياسية بمصطلحات تضمن حماية حقوق الشعوب بثرواتها، في عالمٍ يسوده الأمن والإستقرار والسلام، وكل ما يضمن احترام حياة وكرامة البشر.