يمزج الباحث أحمد بوبس "1946" في كتاباته بين الإبداع والتوثيق والبحث، متجاوزاً حدود التخصص الواحد، الأمر الذي يجعل الكتابة عن مسيرته المستمرة حتى اليوم مهمة صعبة. وقد أنجز هذه المهمة الدكتور محمد منير أبو شعر، مستنداً إلى صداقة تربطه بـ بوبس لأكثر من أربعين عاماً، ليصدر كتابه مؤخراً بعنوان "أحمد بوبس…مسيرة كفاح". الكتاب توثيقي بالمجمل، يعتمد على الوقائع والأحداث، ومسار التجربة الشخصية والمهنية لـ بوبس، ولكنه يحمل أيضاً حميمية وفهماً عمقتهما الأيام واللقاءات، يرافقان القارئ منذ الصفحة الأولى. ويذكر أبو شعر أن صديقه حكى له كل شيء عن حياته، لكن سرده يحتاج إلى مجلدات، وهو ما ينسحب على هذه المادة الصحفية أيضاً، ففي الكتاب الكثير من المواقف والحكايات التي لا تتسع لها.
إبحارٌ ضد التيار
يفتتح أبو شعر كتابه بالإشارة إلى أن بوبس هو قبل كل شيء رفيق عمره ودربه، وأنه "من الرجال الذين يصنعون أسماءهم. يستحق كل الأضواء، رغم أنه يحب الظل"، وعلى حد تعبيره أيضاً "رجل أراد فخضعت له الإرادة". وفي السياق ذاته، لم تكن رحلته من حارة "السخانة" في حي الميدان الدمشقي، حيث امتهن والده نجارة البيتون، ومارست والدته أعمال الخياطة اليدوية في البيت لصالح محلات صناعة العباءات، إلى كونه واحداً من أهم الأصوات الثقافية في سورية، مجرد صعود مهني عادي، بل كانت إبحاراً ضد التيار. يقول أبو شعر "لم ينشأ بوبس في أسرة ميسورة توفر له مستلزمات الدراسة والثقافة، نشأ عصامياً، سار في طريق مليئة بالصعوبات والمثبطات للعزائم، انتصر عليها بعزيمته وإصراره".
قدّم بوبس خلال مسيرته الإذاعية مئات الحلقات التي تناولت التراث الموسيقي السوري والعربي
مشروع مثقف عصامي
يشرح أبو شعر كيف نشأت البذور الأولى لمشروع مثقف عصامي، حتى كانت أول ثلاثة كتب اقتناها للمفكر علي الطنطاوي "قصص من التاريخ" و"رجال من التاريخ" و"صور وخواطر"، ومع أنه عاش طفولة صعبة في ظل ظروف سياسية مضطربة، حيث كانت التظاهرات والإضرابات متكررة، وكان التلاميذ يخرجون من مدارسهم تحت تهديد الحجارة، استطاع أن يحافظ على تفوقه الدراسي. كما يوثق أبو شعر أن الدراسة الجامعية لم تكن مساراً مُعبّداً لصديقه، فمجموعه في الثانوية العامة منعه من دخولها مباشرة، عدا عن التزامه بعمل وظيفي، ومن ثم عندما أُتيحت له الفرصة بالانتساب للفرع المسائي في كلية العلوم، واجه نظام "تضامن المواد" الصعب، إلى أن صدر مرسوم رئاسي منحه فرصة استثنائية، ليتفرغ للدراسة ويحقق النجاح الذي حلم به، حاصلاً على إجازة في الرياضيات.
بين الشعر والصحافة
يستعرض الكتاب انطلاقته الشعرية عام 1969 عندما نشر قصيدته الأولى في مجلة الثقافة الأسبوعية، لتبدأ علاقة متينة مع صاحبها الأستاذ مدحة عكاش، الذي تبناه أدبياً ورشحه للمهرجانات الشعرية في ليبيا وسوريا. ومن أبرز قصائده "دقوا على بابي"، والتي نظمها خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، لحنها لاحقاً حبيب عيسى لصالح اتحاد شبيبة الثورة، وتضمنتها مجموعته الشعرية "بيروت موسم النزيف".
دخلَ بوبس عالم التلفزيون مُعدّاً ومُقدّماً، مصادفة، بدأت بمقابلة مع الموسيقي ضياء السكر
أما عن الانطلاقة الصحفية، فجاءت من بوابة جريدة الثورة، عندما قدّم قطعة نثرية بعنوان "ثرثرة على موقف الباص" إلى رئيس القسم الثقافي وقتها ممدوح عدوان، ومع أنه توقع أن يكون مصير مقالته سلة المهملات، إلا أنه فوجئ بنشرها بشكل بارز. وفي عام 1979، دعاه مدير الجريدة أحمد الحاج علي وقال له: "كتاباتك جميلة.. هل تصبح صحفياً في الجريدة؟" فكانت بداية رحلة صحفية امتدت ثلاثين عاماً.
ميادين الإذاعة والتلفزيون
يستفيض الكتاب في الحديث عن حكاية بوبس مع العمل الإذاعي، حيث يروي أن مديرة إذاعة "صوت الشعب" جيهان علبي سألته: "لماذا لا تأخذ برنامجاً عندنا؟" فكانت باكورة لبرامج ثقافية متميزة مثل "صناع النغم" و"أغنيات وحكايات". وبعد تقاعده، واصل عطاءه ببرنامج "قصة أنشودة" وبرنامج "إذاعة دمشق.. تاريخ وذكريات" الذي وثّقَ فيه تاريخ الإذاعة السورية. وكما يعرف المتابعون، قدّم بوبس خلال مسيرته الإذاعية مئات الحلقات التي تناولت التراث الموسيقي السوري والعربي، مستضيفاً أهم الأصوات الفنية والموسيقية في العالم العربي، ولا يزال.
عام 1983 حاور بوبس المستشرقة الألمانية زغريد هونكة، صاحبة كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب"
كما دخلَ عالم التلفزيون مُعدّاً ومُقدّماً، مصادفة، بدأت بمقابلة مع الموسيقي ضياء السكر، ثم أعد فيلماً عن الملحن نجيب السراج، تلا ذلك عشرات الأفلام الوثائقية، عن حياة أعلام الفن والثقافة في سورية. ويشير الدكتور أبو شعر إلى أن بوبس استطاع من خلال هذه الأفلام توثيق مراحل مهمة من تاريخ الحركة الفنية السورية.
ذاكرة الموسيقا والكتابة
يُبرز أبو شعر دور بوبس في توثيق الحركة الموسيقية، حيث أجرى مقابلات مع أعلام الفن مثل منير بشير ونور الهدى ونجاح سلام، حتى أنه يعد اليوم الاسم الأول في البحث والأرشفة والتوثيق للغناء والموسيقا السورية. ومما يذهب إليه الكتاب، اجتهاد بوبس في تأليف عدة كتب مهمة من بينها "دليل المطربين السوريين"، "دليل الصحافة السورية"، "فلسطين في الأغنية العربية"، "عبد اللطيف فتحي … رائد المسرح الشعبي"، إضافة إلى مساهمته باثنين وثلاثين بحثاً في "الموسوعة العربية"، والكثير من الحوارات الصحفية الهامة منها مقابلته مع المستشرقة الألمانية زغريد هونكة، صاحبة كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب"، عندما حضرت ندوة في البيمارستان النوري في دمشق عام 1983. يقول أبو شعر "لم يتوقف طموح أحمد عند حلمه الذي تحقق في أن يكون صحفياً، بل كان هاجسه الأهم أن يصبح كاتباً، يضع الدراسات، ويُؤلّف الكتب، فالصحفي تنتهي حياته العملية عندما يتقاعد، أما الكاتب فيبقى مستمراً في العطاء، حتى آخر لحظة من حياته".