سخرت وسائل الإعلام العبرية ليلة أمس الاثنين وصباح اليوم مما يسمى بـ "خطة ترامب" الجديدة لإنهاء الحرب في غزة. وذكرت القناة الـ 13 بالتلفزيون العبري أن أهالي المخطوفين (الرهائن والأسرى) شعروا بأن المبعوث الخاص للإدارة الأمريكية إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، وهو يهودي مولود في بلغاريا، غير ملم بالتفاصيل، وعصبي المزاج، ويريد فرض رأيه عليهم دون الأخذ في الاعتبار مواقفهم.
بالإضافة إلى ذلك، لا تحظى الرؤية الجديدة لـ "الصفقة الشاملة" التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ونشرت ملامحها الأولية، بأي نقاشات جدية حتى الآن، إذ يُنظر إليها باعتبارها غير قابلة للتنفيذ بصيغتها الراهنة، خصوصًا أنها لا تتضمن ضمانات حقيقية. وعليه، أبدى الوسطاء في القاهرة والدوحة حذرًا واضحًا تجاه هذا المقترح، فيما يواصلون مساعيهم للضغط على واشنطن من أجل الدخول في مفاوضات أكثر جدية، ودفع تل أبيب إلى وقف عملياتها العسكرية في مدينة غزة، مراهنين أيضًا على إمكانية إحداث اختراق سياسي خلال اجتماعات "الجمعية العامة للأمم المتحدة" في نيويورك، الشهر الجاري.
علاوة على ذلك، فقد فضح اجتماع الحكومة الإسرائيلية ليلة أول من أمس كل شيء. الوضع في غزة تغير بشكل جذري، والخطة الأمريكية السرية لليوم التالي للحرب انكشفت بعد شهور من العمل عليها في الظلام. ووفق الإعلام العبري، فإنه في اجتماع مطول استمر لست ساعات حاول رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير، ورئيس الموساد دافيد برنياع، ووزير الخارجية جدعون ساعر إقناع نتنياهو بقبول الصفقة الجزئية التي وافقت عليها المقاومة بالفعل يوم 18 أغسطس، باعتبار أن الجيش يمكنه استئناف القتال مثلما أراد بعد انتهاء هدنة الستين يومًا واستعادة نصف الأسرى الأحياء.
لذا يُسأل السؤال: ما المنطق من معارضة الانسحاب إذا كان بالإمكان إعادة احتلال القطاع؟ هنا فجر نتنياهو المفاجأة، لا يمكن قبول الصفقة الجزئية لأن ترامب يضغط بقوة لعقد صفقة شاملة بعد القضاء على المقاومة مرة واحدة وأخيرة. لماذا؟ كيف تحول ترامب من الضغط لإنهاء الحرب إلى الضغط لاستمرارها؟ وهذا ما كشفته جريدة الواشنطن بوست. فقد تم تسريب وثيقة من 38 صفحة تشرح بالتفصيل رؤية ترامب لقطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وهي رؤية تستوجب القضاء على المقاومة قبل التخلص من الأنقاض. الإدارة الأمريكية لم تتراجع عن مخطط التهجير، كل ما حدث هو مجرد انسحاب تكتيكي لتهدئة الرأي العام مع إعطاء نتنياهو الفرصة لفرض واقع جديد على الأرض إلى أن يتم الانتهاء من تحضيرها.
ما هي الخطة؟ الاستيلاء على 30 بالمائة من أرض القطاع التي تصنفهم الإدارة الأمريكية كملكية عامة، والاقتراض بضمان قيمتها. الهدف هو جمع 100 مليار دولار لصالح صندوق استثماري قدرت شركة BCG للاستشارات الإدارية بأنه سيدر أرباح تقدر بأربع أضعاف قيمته بعد عشر سنوات، وهي المدة التي تريد الولايات المتحدة خلالها فرض سيطرتها على القطاع. كيف يمكن جني 400 مليار دولار خلال عشر سنوات؟ مصانع سيارات كهربائية ومراكز بيانات ومحطات طاقة شمسية وتحلية مياه ومنتجعات فندقية ومناطق صناعية وتجارية وأبراج سكنية تحمل اسم معتوه أمريكا، والتاريخ والجغرافيا، ترامب، خطة طموحة شارك في تحضيرها توني بلير لن ترى النور إلا بتهجير السكان وكسر المقاومة.
أما فيما يتعلق بالسكان، اقترح الصندوق إعطاء أصل رقمي لكل ساكن يرغب في المغادرة يحق له من خلاله الحصول على 5000 دولار، وما يوازي إيجار أربع سنوات وطعام سنة، ليغطي مصاريف انتقاله لدولة مضيفة يرجح أنها ستكون إما جنوب السودان، أو ليبيا، أو أرض الصومال، أو إندونيسيا، أو إثيوبيا. أما الذين سيرفضون مغادرة الأرض ولكنهم لا يرفضون الخطة يمكنهم الحصول على شقة في أحد الأبراج الجديدة، طبقًا للعرض والطلب. لماذا كل تلك التكاليف؟ لأن القائمين على الصندوق يرجحون أن تكلفة البقاء في غزة أغلى بقيمة 23 ألف دولار للفرد، لما سيتطلبه من إنفاق على البنية التحتية المدنية ومنشآت التعليم والصحة والأمن والسكن. وبالتالي فور الاستقرار على الدولة المضيفة سيتم البدء في التنفيذ.
ماذا إذا رفض بعض السكان المغادرة؟ الجيتو الفلسطيني ينتظرهم في معسكرات سينشئها الاحتلال في الجنوب مع بدء اجتياح ما تبقى من الشمال. بكلمات أخرى، خطة طموحة ومفصلة هدفها القضاء على الخطة العربية الأوروبية لليوم التالي للحرب، ولذلك تم إعطاء نتنياهو الضوء الأخضر، بل والضغط عليه، لينفذ ما وعد به خلال عامين. المقاومة شوكة في حلق الاحتلال لا بد من كسرها، ولكن الشوكة تأبى أن تنكسر.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جيش الاحتلال اعترف بوثيقة سرية يرجح تسريبها من قبل القيادات للضغط على نتنياهو بقبول الصفقة بفشل عملية عربات جدعون في تحقيق أهدافها، فكيف للجزء الثاني من العملية أن ينجح فيما فشل فيه الجزء الأول؟ كيف لجيش وصفته الوثيقة بالمنهك، وغير المجهز، والبطيء، أن يفرض سيطرته على أرض، مثل اسمها، عصية على الغزاة؟
وفي الختام رأى الجنرال المتقاعد إسرائيل زيف في مقال بموقع القناة الـ 12 بالتلفزيون العبري "أن مهمة رئيس هيئة الأركان تنفيذ تعليمات الحكومة، والتعليمات التي يتلقاها ليست سوى شعارات شفهية، من دون أي تحديد للغرض المطلوب من العملية في غزة، أو ما هي الأهداف والإنجازات بالتحديد". وتابع: "من الواضح أن المستوى السياسي، وبشكل خاص رئيس الوزراء، يعتبر أن التعريفات مجرد عائق، وما يهم فقط هو استمرار الحرب، ومنهجيته هي أنه إذا حقق رئيس هيئة الأركان نجاحات، فسيتبناها فورًا، ويذكر بأنه هو الذي دفع في اتجاهها، أما إذا كان هناك إخفاقات، فهي تقع على عاتق رئيس هيئة الأركان حصريًا: ليس هجوميًا بما يكفي، يتصرف بشكل خاطئ، وهكذا دواليك. نتنياهو هو الأب الروحي لمدرسة الهروب من المسؤولية واحتكار النجاحات."
عن زهير أندراوس، رأي اليوم