منذ تأسيس "الملتقى السوري للنصوص القصيرة" عام 2011، واجه الأدباء السوريون الذين خاضوا تجربة "الأدب الوجيز" انتقادات تتهمهم بالاستسهال أو العجز عن كتابة نصوص إبداعية طويلة. ولكن، بعد مرور أكثر من عقد ونصف، أثبتت نتاجات هؤلاء الأدباء خطأ هذه الاتهامات، حيث أظهروا قدرة عالية على التكثيف والاقتصاد في الكتابة، بالإضافة إلى إبداعهم في أنواع أدبية أخرى.
تعتبر الأديبة السورية فوزية الكوراني من بين هؤلاء المبدعين، حيث قدمت "مفارقة" من خلال كتابة النص القصير، وخاصةً في القصة القصيرة جداً، والتي أصبحت من روادها. من مجموعاتها القصصية: "تراتيل أنثى، شهقات النعمان، وهارمونيكا". كما صدر لها في الرواية: "الطاولة الخضراء، رحيق العمر، جعلوني زانية، وأجنحة من رماد". لم تقتصر مساهمات الكوراني على النتاج الأدبي، بل شملت النقد الأدبي والبرامج والدراسات الإسلامية.
في هذا المقال، اخترنا نصوصاً من قصص فوزية الكوراني القصيرة جداً، كمختارات للقراءة:
"توثيق"
عندما كانت جدتي تسرد حكاياها عن جدي، وتصف بأن الصقر يقف على شاربه! اعتقدتُ أن كلّ الرجال هكذا. في ليلة زفافي؛ لم أجد سوى بقايا الريش تتطاير في الهواء.. حزنت عليه فقصصت ضفيرتي هديةً له.
في هذا النص، تتأسس البنية السردية على "انهيار الأفق التوقعي للقارئ"، حيث تنقلب الصورة الموروثة عن الرجولة إلى ريش متناثر. يتحول الرمز الأسطوري إلى إشارة فارغة، وتنهار الأسطورة الشعبية أمام التجربة الفردية. فعل البطلة (قصّ الضفيرة) يكشف عن هشاشة البنية الثقافية المسيطرة.
"حلمٌ قاتل"
عند اقتراب القمر من شرفتها؛ وضعوا قيوداً ذهبية في معصمها.. سافر بصرها! على سهوةٍ منها نطقت باسمه؛ تبرعوا جميعاً برجمها.
هنا تتقاطع صورة الحرية (القمر/الشرفة) مع صورة القيد (الأساور الذهبية). العلامة (الذهب) تحمل معنيين متناقضين: الجمال والأسر. تفكك القصة خطاب المجتمع الذي "يشرعن" القمع تحت غطاء الشرف.
"مسغبة"
زجرني ضميري؛ عندما وقفت أمام بائع الورد في عيد زواجي الذهبي؛ (كيف تكون رائحتها والبطون خاوية؟). عدت أدراجي أقف في طابور الفرن.
يتقابل حقل الورد (الرمزي) مع حقل الخبز (المعيشي). المفارقة الزمنية (عيد الزواج الذهبي) تتهاوى أمام طابور الفرن. يختزل النص الصراع بين الثقافة الاحتفالية وثقافة الحاجة.
"جور"
قررنا النزوح إلى الداخل، لكي لا نحتاج للقارب عند نقطة العبور؛ طلبوا الأوراق الثبوتية، شاهت الوجوه؛ قيدوا أرواحنا ضد مجهول.
يتجسد "المنفى الداخلي"، إذ يتحول الداخل إلى فضاء للاغتراب. تسجيل الأرواح "ضد مجهول" هو "محو الهوية السردية". المكان الذي يفترض أن يمنح الأمان يتحول إلى أداة قمع.
"استبداد"
كبلوه بقيدٍ من حديد، أقعدوه قسراً، اشتعل رأسه نوراً، أضاء الظلمة؛ تقهقر سجانوه.
"خَردل"
كلما قطعوا إِصبعي، نبتت أخرى. عندما وصلوا للوسطى؛ بدأت بالتصفيق.. قَهْقَهَ نَعشي ذلاً.
يقدم النصان نموذجين متناقضين للمقاومة. الأول ينتصر بفكره رغم قيوده، والثاني يجسد انهيار المقاومة عبر تحويل الأصابع المقطوعة إلى تصفيق.
"تمزّق"
عندما شدَّوا الحبل، كُنَّا نحن العقدة في المنتصف؛ أرادوا الفوز بها. انتهت اللعبة، فتقاسمونا بينهم، وأصبحنا عبيداً للعداوة الأزليّة التي فرَّقتنا.
تُبنى القصة على استعارة الحبل المشدود، حيث "العقدة" تُمثّل الشعب. النهاية لا تنتج رابحاً، بل تؤدي إلى تفتيت العقدة، أي تفكيك الجماعة.
"لُصُوصِيَّة"
اجتمعت هيئةُ محكمةِ الغربانِ العليا، فنصَّبوا النعامةَ ملكاً على الغابة.. صفَّق الجميعُ، ظنًّا منهم أنها نسيت أصلها. عندَ أوَّلِ مَطَبٍّ، عَمَّقَتْ رأسَها في الحُفرة!
تعتمد القصة آلية التمثيل الحيواني، وتفضح شرعية زائفة تُمنح عبر تصويتٍ فاسد.
"آنات"
لست وحدك من واجه مرآتها؛ كلما رسمت على غباشها ملامح، غيبتها قطرات الرطوبة! واحد.. اثنان.. ثلاثة.. لم يصمد سوى بائع المحارم المتجول!
يتكرر مشهد المرايا التي تفشل في تثبيت الصورة، في مقابل صمود بائع المحارم المتجول. يعاد الاعتبار للهامش بوصفه بؤرة البقاء.
في الختام، نصوص الكوراني تكشف عن وعي جمالي بممكنات القصة القصيرة جداً، حيث التكثيف يعني شحنة مكثفة من المعنى. تقوم نصوصها على المفارقة السردية والاستعارة التصويرية والتوتر الدلالي. يمكن مقاربة نصوص فوزية الكوراني بوصفها نموذجاً عربياً لهذا الفن، حيث يتقاطع فيها البعد الجمالي مع النقد الاجتماعي والسياسي.
تضع الكوراني نصوصها في صميم مشروع أدبي يسعى إلى تفكيك البنية الاجتماعية والسياسية وتنقيتها عبر ومضات سردية قصيرة، مؤكدة أن القصة القصيرة جداً هي أداة معرفية ونقدية بامتياز.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية