الخميس, 28 أغسطس 2025 08:34 PM

حادثة برّاك: كشف عن وجه الاستعمار النيوليبرالي وتأثيره على الخطاب

حادثة برّاك: كشف عن وجه الاستعمار النيوليبرالي وتأثيره على الخطاب

كريم حداد

لم تكن تصريحات المبعوث الأميركي توماس برّاك في القصر الجمهوري، والتي وصف فيها الصحافيين اللبنانيين بأنهم يتصرفون "مثل الحيوانات"، مجرد ردة فعل شخصية أو خطأ بروتوكولي عابر. بل هي حادثة تكشف عن البنية العميقة للهيمنة الإمبريالية.

إن ما قاله برّاك يندرج ضمن سلسلة طويلة من الممارسات الاستعمارية التي تبدأ بالكلمة وتتبعها القنبلة. فالاستعمار، كما أوضح فرانتز فانون في كتابه "معذّبو الأرض"، لم يفرض سيطرته بالسلاح فقط، بل قام بتشكيل صورة ذهنية للآخر، تجرده من إنسانيته وتحوله إلى مجرد موضوع للوصاية.

المستعمَر في نظر المستعمِر ليس كائناً كاملاً، بل نصف إنسان، يعيش في العاطفة والغريزة والفوضى. وعندما يتم تجريد الآخر من إنسانيته بهذه الطريقة، يصبح العنف الممارس ضده واجباً أخلاقياً، أو تدخلاً تربوياً. لذلك، لا يمكن اعتبار كلمات برّاك مجرد زلة لسان، بل هي تكرار معاصر لمنطق استعماري يعود إلى قرون مضت.

يعيد هذا المنطق إلى الأذهان ما كشفه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق". فالشرق في المخيال الغربي ليس مكاناً حقيقياً، بل هو بناء خيالي: فضاء للفوضى والعاطفة والغرابة، في مقابل الغرب الذي يُقدَّم على أنه عقلاني ومنظم. وما فعله برّاك هو ممارسة لهذا الاستشراق بأبشع صوره: ليس نصاً أكاديمياً يُكتب من بعيد، بل خطاب مباشر من قلب قصر رئاسي، يملي فيه الأميركي على الصحافيين معنى "المدنية" كما يراها. في لحظة واحدة، اختصر الرجل قروناً من التنميط: الشرق كفوضى تحتاج إلى تقويم، والغرب كمعلم يوزع الدروس.

بالنظر إلى تاريخ الاستعمار الأوروبي، نجد أمثلة مشابهة كثيرة. فالجنرال الفرنسي بوجو في الجزائر، في القرن التاسع عشر، كان يتحدث عن الجزائريين كـ"قطيع" لا يفهم سوى لغة العنف.

الاستعمار البريطاني في الهند صور السكان الأصليين كـ"أطفال" لا يعرفون مصلحتهم، وبرر الوصاية عليهم بحجة إدخالهم في طريق التقدم. وفي أفريقيا، ادعى المستعمرون أن السود "أقرب إلى الطبيعة"، أي إلى الحيوانية، مما يبرر إخضاعهم وتجنيدهم في معسكرات العمل القسري. كلمات برّاك ليست سوى صدى محدث لهذه اللغة، التي عادت اليوم بوجه أكثر وقاحة، دون الحاجة إلى أقنعة حضارية كثيرة.

في هذا الخطاب، يظهر ما أسماه سمير أمين "الفيروس الليبرالي": تلك الأيديولوجيا التي ترفع شعار الحرية والديمقراطية، ولكنها في العمق تحول السياسة إلى غطاء للعنف والاقتصاد وأداة للنهب. يتغذى الفيروس الليبرالي على ازدواجية صارخة: مبعوث يتحدث عن "المدنية" بينما يمارس الإهانة العنصرية، أو إدارة ترفع راية "حقوق الإنسان" بينما تبرر قصف المدنيين. هذه الازدواجية ليست عرضاً، بل جوهر النظام النيوليبرالي الذي ينتج "ديمقراطية منخفضة الكثافة"، كما وصفها أمين: واجهة شكلية تخفي حقيقة السيطرة.

أما أشيل مبمبي، فيرى أن السلطة الحديثة لا تُعرَّف فقط بقدرتها على تنظيم الحياة، بل بقدرتها على تحديد من يُترك ليموت. ما يسميه "سياسات الموت" يتجلى هنا بوضوح: عندما يقال عن سكان الشرق الأوسط إنهم "حيوانات فوضوية"، فهذا يضعهم في خانة من لا يستحق الحماية، ومن يمكن التضحية بهم بلا كلفة أخلاقية.

الكلمة هنا تعادل الرصاصة: تحديد موقع جماعي في خريطة العالم، حيث يوجد من يعيش كمواطن كامل، ومن يُترك ليموت لأنه فوضوي، متخلف، أو ببساطة زائد عن الحاجة.

وإذا استعرنا سؤال غاياتري سبيفاك: هل يمكن للتابع أن يتكلم؟ فإن حادثة برّاك تقدم جواباً عملياً قاسياً: التابع لا يُسمح له بالكلام إلا وفقاً لقواعد المهيمن. الصحافيون الذين يُفترض أن يسألوا ويحاسبوا، جرى إسكاتهم بخطاب وصائي يحولهم إلى مشكلة سلوك. في لحظة واحدة، انتقلت السلطة من كونها موضوعاً للنقد الصحافي إلى معلمة تقرر لهم كيف يتحدثون. إنها مصادرة للصوت، وتذكير بأن الاستعمار لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يسيطر على شروط الخطاب نفسه.

هكذا نجد أن الحادثة لم تكن مجرد انفعال عابر، بل تجلٍّ حيّ لكل ما كتب عنه مفكرو ما بعد الكولونيالية: فانون في "نزع الإنسانية"، سعيد في "الاستشراق"، أمين في "الفيروس الليبرالي"، مبمبي في "سياسات الموت"، وسبيفاك في مصادرة صوت التابع. وهي تتطابق أيضاً مع تاريخ طويل من الإهانات الاستعمارية التي مارستها فرنسا في الجزائر، وبريطانيا في الهند، وبلجيكا في الكونغو، حيث جرى تصوير السكان دوماً ككائنات ناقصة لتبرير استغلالهم أو إبادتهم. الفرق أن برّاك لم يغطّ إهانته بخطاب طويل عن "رسالة الحضارة"، بل قالها بوضوح فجّ: أنتم تتصرفون كالحيوانات.

هذا الانكشاف قد يبدو صادماً، لكنه يعيد التذكير بأن الاستعمار، مهما غيّر وجوهه، لا يتخلى عن جوهره: نزع الإنسانية عن الآخر لتبرير السيطرة عليه. وإذا كان القرن التاسع عشر قد برر الاستعمار بالتمدين، فإن القرن الحادي والعشرين يبرره بالمدنية والديمقراطية. وفي الحالتين، تظل النتيجة واحدة: قتلٌ يُعرض كتنظيم، وإذلالٌ يُسوَّق كإصلاح، وهيمنةٌ تُقدَّم كوصاية.

بهذا المعنى، حادثة بعبدا لم تكن مجرد شذوذ دبلوماسي، بل لحظة تعرٍّ تكثّف قروناً من الاستعلاء الإمبريالي. إنها تعيد إلى الواجهة حقيقة أن المعركة ضد الاستعمار لم تنتهِ، بل تبدّلت أدواتها: من البندقية إلى الكلمة، من الاحتلال المباشر إلى الإهانة العلنية، من الإدارة الاستعمارية إلى الفيروس الليبرالي الذي يغزو العقول قبل أن يستولي على الأسواق.

خاتمة ما قاله توماس برّاك لا يمكن فصله عن سياق الدم الجاري في لبنان وفلسطين. فالمجازر الإسرائيلية، التي تحصد المدنيين يومياً، تحتاج دوماً إلى غطاء لغوي وأخلاقي يخفّف من وقعها أمام الرأي العام الغربي. وعندما يصف مبعوث أميركي شعوب المنطقة بأنهم "حيوانات فوضوية"، فإنه عملياً يوفر هذا الغطاء: يحوّل الضحية إلى مذنب، والقاتل إلى "منظّم"، ويحوّل القصف إلى فعل تأديب ضد "فوضى"، لا إلى جريمة ضد الإنسانية.

بهذه الطريقة يتكامل الخطاب مع الرصاصة، والإهانة مع القنبلة. الكلمات تسبق القصف وتشرعنه، والمجازر تجد في الوصف العنصري شرعية مسبقة تضعها خارج النقاش الأخلاقي. حادثة بعبدا لم تكن إذاً شأناً بروتوكولياً، بل حلقة في سلسلة الحرب الإمبريالية التي تُمارس بالسلاح واللغة معاً، إذ تصبح الكلمة أداة قصف لا تقل فتكاً عن المدفع، وتصبح المعركة على الكرامة والمعنى جزءاً لا يتجزأ من معركة البقاء.

أخبار سوريا الوطن-الأخبار

مشاركة المقال: