خالد جمعة: بدأت رحلة جمع نوادر الكاسيتات الخاصة بـ زياد الرحباني من كل حدب وصوب، وكنت أوصي المسافرين لجلب التسجيلات النادرة من الخارج. كم كانت سعادتي غامرة عندما أحصل على شريط فيديو يظهر فيه زياد وهو يتحدث، حتى أنني اشتريت جهاز فيديو خصيصاً لتسجيل مقابلاته، مثل تلك المقابلة الشهيرة مع جيزيل خوري التي امتدت لست ساعات على حلقتين، وذلك قبل انتشارها على اليوتيوب.
كان زياد صديقاً شخصياً، وكنت مع صديقي أيمن البردويل نشاهد مسرحية «فيلم أميركي طويل» بشكل يومي حتى حفظناها عن ظهر قلب، مثل بقية مسرحياته العميقة والحزينة والمليئة بالفكاهة في الوقت نفسه، مثل «شي فاشل»، «نزل السرور»، «بالنسبة لبكرا شو»، «سهرية»… وغيرها. احتفظنا بكل ما أنتجه خلال الحرب الأهلية من برامج مثل «بعدنا طيبين»، «شي تابع لشي»، «العقل زينة»، بكل تعليقاته الساخرة والمليئة بالكوميديا السوداء. كنا نتابع أخباره وتفاصيلها، وكل ما يفعله أو يقوله كان يبدو لنا ضرباً من العبقرية، ربما لأننا أحببناه أكثر من اللازم، أو لأنه كان عبقرياً بالفعل، حتى صرنا نردد بعضاً من «قفشاته» في سهراتنا.
عندما أطلق ألبومه الشهير «بما إنو»، كان هذا الألبوم هو الرفيق الدائم لي ولصديقي نعيم الخطيب، لدرجة أنني اشتريته أكثر من 15 مرة لأهديه لأصدقائي، حتى أن مورغان، المتطوع الإيرلندي في الأونروا، ذُهل من الموسيقى التي سمعها في الكاسيت. أرسلت ديوانه «صديقي الله» الذي كتبه قبل أن يتجاوز الثالثة عشرة من عمره إلى عدد كبير من الأصدقاء وغير الأصدقاء، ولولا التاريخ المطبوع على الديوان، لما صدق أحد أن هذه العبقرية يمكن أن تصدر عن ولد لم يبلغ الحلم بعد. ولكن عندما علمنا أنه لحّن لأمه أغنية «سألوني الناس» وهو في الرابعة عشرة، ازداد تعجبنا بدل أن يزول.
كان زياد حاضراً دائماً، في نقاشاتنا، في أغنياتنا، في ضحكاتنا، وفي أمثلتنا عن الحياة، حتى أنه خلق نمطاً من الفن أطلق عليه محبوه «الرحبانية»، أو «ذوي المزاج الرحباني»، حيث شرّق البيانو، وشرّق الجاز. كان جريئاً في الفن، كما هو جريء في السياسة، كما هو جريء في الحياة، يقول ما لا يجرؤ الآخرون على قوله، مع قدرة فائقة على تبرير ما يقوله مهما كان غريباً وشاذاً عن الموقف العام.
برحيل زياد الرحباني، تطوى صفحة من الإبداع الفني، حقبة كاملة بتاريخها وكلماتها وجرأتها، بدأت مع عاصي وانتهت مع زياد، حقبة جمعت الفرقاء اللبنانيين في الحرب على برامجه، فكانت المدافع تسكت وقت إذاعة البرنامج بين المتحاربين، وتعود بعد انتهائه، وهذا ما لم يحدث في تاريخ الحروب، أن يسكت فنان المدافع ولو لنصف ساعة.
كان مرجعاً روحياً نستند إليه في أيام الخواء الثقافي والفني، يعبر عن رأيه في الفنانين دون خشية، يسمي المغنيات ويحلل مشاريعهن إن وجدت، ويحلل أصواتهن إن كان لديهن صوت، بكل ثقة، حتى أن الفنانين كانوا يخشون أن يسأل زياد عن رأيه فيهم. كان يقول أحياناً: لجنة تحكم على أصوات شابة تغني أفضل منها بعشرين مرة، ويضحك بألم. لكن هذا لم يمنعه من الإعجاب بأصوات أخرى، والتعبير عن ذلك بوضوح كما كان يقدم نقده بوضوح.
ميزة أخرى في زياد لم ينتبه إليها الكثيرون، أنه، وهو ابن عاصي و فيروز، وعمه منصور وعمه إلياس رحباني، اتخذ خطاً بعيداً عنهم جميعاً، وهذا الأمر أكثر تعقيداً من أن تكون عبقري موسيقى، أن تخرج من عباءة كل هؤلاء وتخلق خطك الخاص، وتفرضه عليهم أيضاً، فهذه قمة العبقرية، وقمة الاستقلالية الفنية.
ليس زياد من الفنانين الذين يمكن أن نلتقي بمثلهم قريباً، وربما ولا حتى بعد مئة عام، لكن لا أحد يستطيع أن يصادر المستقبل. المؤكد أن زياد الرحباني إضافة إلى خسارة المشهد الفني والثقافي له، فهو خسارة شخصية لكل واحد فينا، لكل واحد كان يستمع إلى الموسيقى بقلبه، لا بأذنيه، لكل واحد كان يسمع اللحن فيتجسد زياد أمامه، قبل أن يتجسد المطرب أو المؤلف، وهذا نادر في الأغاني. برحيل زياد، سنفقد مرجعاً روحياً كنا نستند إليه في أيام الخواء الثقافي والفني، لكنه كان ذكياً في موته كما كان ذكياً في اختياراته الأخرى، فقرر الرحيل قبل أن يستفحل الأمر أكثر مما استفحل حتى الآن.
* شاعر وقاص فلسطيني من غزة
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار