عنب بلدي – محمد كاخي: يواجه الموسم الزراعي في سوريا تحديات جمة، إذ تشهد الزراعة البعلية تراجعًا ملحوظًا نتيجة لأدنى مستويات الهطولات المطرية منذ عقود، وفقًا لبيانات المديرية العامة للأرصاد الجوية السورية الصادرة في 2 أيار الماضي.
في عام 2013، بلغت مساحة الأراضي الزراعية البعلية في سوريا 3.3 مليون هكتار، حيث استحوذ الشعير والقمح البعلي على المساحة الأكبر بمليوني هكتار، تلتهما محاصيل العدس والحمص والفول بـ 200,000 هكتار، وذلك بحسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية.
على الرغم من البداية الواعدة للموسم بكميات مقبولة من الأمطار في أيلول، إلا أن الهطولات تراجعت بشكل حاد مع بداية كانون الثاني، وانحبست في جميع المحافظات السورية، قبل أن تعاود الهطول بشكل متقطع خلال شباط وتتراجع مرة أخرى في آذار، وفقًا لإحصائيات المديرية العامة للأرصاد الجوية السورية.
وتجاوز انخفاض معدلات الأمطار 45% مقارنة بالسنوات الماضية، وأصبحت معظم مناطق الاستقرار الزراعي في سوريا قاحلة أو شبه قاحلة، بحسب المديرية العامة للأرصاد الجوية السورية.
القمح.. الأكثر تضررًا
أفادت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) بأن إنتاج الحبوب في عام 2024 بلغ حوالي 3.4 مليون طن، أي أقل بنسبة 13% من متوسط الخمس سنوات الماضية، وبنحو 33% من متوسط إنتاج ما قبل عام 2011. ويعزى هذا التراجع بشكل رئيس إلى سوء توزيع الأمطار خلال الموسم، وارتفاع درجات الحرارة خلال فترة النمو في نيسان وأيار 2024، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المدخلات الأساسية. وتوقعت “الفاو” أن يكون إنتاج الحبوب في سوريا خلال الموسم الحالي أقل من متوسط إنتاج السنوات الماضية.
اضطر المزارعون إلى بيع محاصيل القمح البعلية لمربي المواشي لتعويض بعض خسائرهم. وأشار المزارع في حمص، غياث الآغا، لعنب بلدي، إلى أن خسارة الدونم الواحد بلغت 370,000 ليرة بعد أن “ضمّنها” لمربي المواشي بـ 30,000 ليرة للدونم الذي كلفه 400,000 ليرة بين أجور البذار والحراثة والمبيدات.
ولم يتمكن بعض المزارعين من “تضمين” محصولهم بسبب ضعف نموه. ووفقًا للمدير السابق للإنتاج العضوي ومدير نظام الإنذار المبكر عن الجفاف، محمد بحري، فإن نمو المحاصيل البعلية هذا الموسم ضعيف جدًا في أغلب المحافظات، ولا يمكن “تضمينه” أو الاستفادة منه.
وفي مناطق سهل الغاب، ذكرت المزارعة في قرية عين الحمام، سوسن زعرور، لعنب بلدي، أن موسم القمح في أرضها لا يزال معرضًا للتلف بسبب قلة المطر والجفاف، وقد يتأثر بضربة شمس (لفحة) تنهي الموسم.
وأوضح المهندس الزراعي والخبير في فيزيولوجيا النبات وتأثيرات المناخ، أنس رحمون، لعنب بلدي، أنه في مناطق الاستقرار الثانية والثالثة والرابعة، إما دخلت المحاصيل البعلية بنسبة 25% من الإنتاج، وإما خرجت من الإنتاج بشكل كامل. فعلى سبيل المثال، في سراقب وريف حلب الجنوبي ومعرة النعمان وخان شيخون وريف حماة الشمالي، خرجت جميع المحاصيل البعلية من الإنتاج. وبالنسبة للقمح البعلي الذي يشكل 30% من قمح سوريا، فقد خرج من الإنتاج بالكامل.
تراجع خصوبة التربة لقلة الأمطار
يؤدي الجفاف إلى إضعاف خصوبة التربة، خاصة في المناطق التي تعتمد على الأمطار كمصدر رئيس للرطوبة. وتعتمد هذه الخصوبة على توازن دقيق بين الخصائص الفيزيائية والكيماوية والحيوية للتربة، وهو توازن لا يمكن أن يتحقق دون وجود الماء.
وأكد المهندس الزراعي خالد الكنج، لعنب بلدي، أن غياب الأمطار سيؤدي إلى مجموعة من الآثار، تبدأ من تعرية الطبقة السطحية الغنية بالمغذيات، وارتفاع معدلات التبخر، وفقدان المادة العضوية التي تعد كنزًا بالنسبة للتربة. وينعكس هذا الفقد على قدرة التربة على الاحتفاظ بالرطوبة وتوفير العناصر الغذائية للنباتات، ما يجعلها بيئة أقل ملائمة للنمو والإنتاج، وفق الكنج.
وتابع الكنج أن التعرية هي “الخطر الأكبر” على التربة، لما تحدثه من فقدان للطبقة السطحية التي يبنى عليها النظام الزراعي بأكمله. وتكمن خطورة هذا الفقد في أن “تشكل هذه السنتمترات البسيطة العلوية في التربة يحتاج إلى مئات السنوات وعمليات معقدة جدًا من التحلل والتجوية”.
مواجهة الجفاف.. حلول مكلفة
أشار المهندس الزراعي خالد الكنج إلى أن الفلاحين بدأوا الاعتماد على منظومات الري العاملة بالطاقة الشمسية، عبر ألواح شمسية ضخمة موصولة برافعات جهد متخصصة تدعى “رافعات جهد زراعية” لتشغيل غطاسات تغذي الأراضي الزراعية الكبيرة، وتوفر مصدر ري دائمًا لمساحات تصل إلى 500 دونم كما في قرية المختارية بريف حمص، ولقرابة 1500 دونم في بعض مناطق إدلب.
وأكد المزارع عبد الرحمن سطيف، لعنب بلدي، أنه يلجأ لري محاصيل أرضه عبر مضخة الديزل، إلا أن هذه العملية تستهلك تكاليف لا يمكن تحملها، إذ يحتاج ري الدونم الواحد إلى ستة ليترات مازوت تقريبًا، وتختلف الكمية بناء على مدى جفاف الأرض، كما أن انعدام الأمان في المنطقة يضطره لسحب مولدة الديزل من وإلى أرضه كلما احتاجت للري.
وأوضح مدير إدارة الاقتصاد والتخطيط في المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (أكساد)، أيهم الحمصي، أن “أكساد” يتبنى استراتيجية طويلة الأمد لمواجهة الجفاف، تركز على استنباط أصناف محسنة من القمح القاسي والطري والشعير والذرة البيضاء، تتميز بتحملها العالي للظروف المناخية القاسية، ويتم إكثار بذار هذه الأصناف وتوفير احتياطي وراثي متنوع يضم أكثر من 50 تركيبًا وراثيًا عالي الغلة ومتحملًا للجفاف، يمكن الاعتماد عليه في سوريا والدول العربية.
وتشمل جهود “أكساد” أيضًا تطوير الزراعة الحافظة والتوسع في زراعة الصبار الأملس الخالي من الأشواك لاستخدامه كعلف في المناطق الجافة.
التدخل الحكومي.. مساعدة 33 ألف مزارع
وقعت وزارة الزراعة السورية اتفاقية مع برنامج الأغذية العالمي (WFP)، في 3 تموز، لدعم المزارعين المتضررين من الجفاف في سوريا. وتهدف الاتفاقية إلى تقديم دعم موجه إلى المجتمعات الزراعية المتأثرة بالجفاف، وحماية سبل العيش في المناطق الريفية، وتعزيز قدرة المجتمعات المحلية على الصمود، بحسب ما نشرته الوكالة السورية للأنباء (سانا).
ونصت الاتفاقية على تنفيذ تدخلين متكاملين يستهدفان نحو 33,000 مزارع، بناء على تقييم الاحتياجات والقدرة التشغيلية. يشمل التدخل الأول دعمًا ماليًا زراعيًا للمزارعين المتضررين من الجفاف في محافظات الحسكة، وحلب، وإدلب، وحماة، وحمص، ودرعا، ويقدم على مدى دورتين إلى ثلاث، تبعًا لحدة الجفاف وهشاشة أوضاع الأسر المتضررة.
ويتضمن التدخل الثاني توزيع حصص غذائية شهرية حتى نهاية كانون الأول للمزارعين المتضررين في الرقة ودير الزور، لتلبية احتياجاتهم الغذائية والتخفيف من آثار خسارة محاصيلهم، بحسب “سانا”.
ويرى المدير السابق لنظام الإنذار المبكر عن الجفاف، محمد بحري، أنه على المدى الطويل لا بد من إعادة تفعيل مشاريع حصاد المياه وتقديم القروض لتبني طرق الري الحديثة وضمان استخدامها بالكفاءة المطلوبة وكذلك إعادة تفعيل مشروع الاستمطار، واعتماد محاصيل اقتصادية بديلة ذات احتياجات مائية قليلة.