الأحد, 29 يونيو 2025 07:02 PM

أمبرتو إيكو: كيف مزج الفلسفة بالرواية وأثرى الأدب العالمي

أمبرتو إيكو: كيف مزج الفلسفة بالرواية وأثرى الأدب العالمي

يعتبر الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932-2016) من أبرز الكتاب العالميين الذين جمعوا بين الفلسفة والرواية، ويتجلى ذلك بوضوح في روايته الشهيرة "اسم الوردة" (1980)، المصنفة كواحدة من أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.

تدور أحداث الرواية في دير إيطالي في القرن الرابع عشر، حيث تُرتكب سلسلة من الجرائم الغامضة يذهب ضحيتها عدد من الرهبان. وتمتزج في الرواية عناصر التشويق والفلسفة، وتختلط فيها عناصر الجريمة ومبادئ التاريخ وعلم الرموز، وصولًا إلى مناقشة العلاقة بين الإيمان والعقل، مما يؤكد أن الأدب يمكن أن يكون وسيلة فعالة لطرح أسئلة وجودية وفكرية عميقة.

عُرف إيكو في بداية مسيرته الثقافية بمؤلفاته النظرية في فلسفة اللغة وعلم الدلالة في بنية النص الأدبي، ولم يبدأ تجربته الأدبية إلا بعد أن قارب الخمسين من عمره. ويوصف بأنه رائد علم السيميائية، وهو العلم الذي يدرس الرموز والعلامات، ويهدف إلى فهم كيفية إنشاء المعنى وتفسيره في مختلف السياقات الثقافية والاجتماعية.

إن الرواية بالنسبة إلى إيكو ليست سردًا للأحداث والوقائع فحسب، بل هي أيضًا عالم من الرموز التي تدفع باتجاه التفكير الفلسفي العميق، وفضاء من العلامات التي تؤدي إلى تحليل الأشياء وتفسير الثقافة هوية وسلطة ونظرية وتطبيقًا.

والرواية هي الوعاء الحاضن للمبادئ الفلسفية المنثورة في مؤلفات إيكو غير الأدبية، التي تتناول تفاصيل السيميائية، ومواضيع القرون الوسطى، وأسس النقد الثقافي والاجتماعي. والنص السردي هو نقطة التوازن بين الظواهر السيميائية والظواهر الثقافية، حيث تصبح الكلمات رموزًا تشكل نظامًا منطقيًا مع بعضها البعض، وتصير المعاني إشارات تدمج هوية الفعل الاجتماعي مع الوقائع التاريخية القائمة على الاتصال بين الثقافات، والتواصل مع العناصر المحيطة بالفرد والجماعة، مما يؤدي إلى تكوين إطار تاريخي للأفكار والأشياء، وتأسيس مرجعية معرفية تتعامل مع التجارب الإنسانية في المجتمع كأنظمة عقلانية ورموز لغوية ومهارات إبداعية.

إن انتقال إيكو من الفلسفة إلى الرواية لم يكن عبثيًا أو صدفة أو مفاجئًا، وإنما كان محاولة جادة لنقل الأفكار الفلسفية من الهلامية إلى الواقعية، ومن التجريد إلى التطبيق، ومن الحيز النظري إلى الفضاء الإنساني المشتمل على المشاعر والأحاسيس والأحداث اليومية والوقائع التاريخية.

ولم تكن روايات إيكو إلا أنساقًا معرفية لإدراك الحقائق التاريخية الكامنة في الحياة الواقعية، وأنظمة فلسفية للكشف عن الأشياء التي لا يقولها النص، حيث يتم الربط بين الخيال الأدبي والغموض الفلسفي القائم على الأسئلة الوجودية العميقة.

والنص – باعتباره عملًا فنيًا إبداعيًا – يحمل في داخله تفسيرات متعددة، وتأويلات متباينة، ويبتكر قوانين خاصة به، ويخترع لغة وجدانية جديدة ومدهشة تعيد تعريف العاطفة كفعل اجتماعي، وتعيد صياغة مرجعية اللغة كوظيفة وجودية مفتوحة على جميع التجارب والتأملات.

إن عوالم السرد تعتمد على فلسفة اللغة، وتستند إلى الأشكال التعبيرية، وترتكز على روح النقد الجذري، وتحلل طبيعة مسار الإنسان، وتفسر ماهية مصيره، من أجل بلوغ الحقيقة كقيمة معيارية ومنظومة حياتية. الأمر الذي يقود إلى الخروج من هامش التاريخ إلى الوعي بالتاريخ، والانفتاح على العالم، وتطوير مفاهيم الإبداع كمًا وكيفًا.

وما يميز الرواية عن الفلسفة هو أن الرواية قادرة على صهر التشويق والمغامرات والحوارات والتاريخ في بوتقة تغيير الواقع، اعتمادًا على اللغة والفكر والمنهج، أما الفلسفة فهي منظومة جامدة ومتمركزة، تنتج خطابًا نخبوياً متعاليًا، كما أنها تتحرك في ظل التعريفات الاصطلاحية. لذلك تشترك الفلسفة والرواية في الألفاظ، وتختلفان في المعاني، نظرًا إلى اختلاف المرجعية، والأصل يحدد طبيعة الفروع، والمنبع يحدد طبيعة الروافد.

لقد اعتبر إيكو أن الرواية هي الميدان العملي لأفكاره النظرية، والتطبيق الفعلي للخيالات التاريخية، وأن الفلسفة لا يمكن أن تصل إلى شرائح المجتمع كافة إلا من خلال عمل أدبي متكامل فنيًا وفكريًا، وأن الغوص في أعماق التاريخ والثقافة لا ينجح بشكل كامل إلا من خلال قصة قائمة على التشويق وجذب المتلقي. ومن خلال هذه القصة يتم حقن الأذهان والمشاعر بالأسئلة الوجودية الحاسمة، والأفكار الفلسفية العميقة، والعثور على خريطة فكرية للعالم تفكك أحداث التاريخ، وتفسر وجود الإنسان في الأزمنة المختلفة والأمكنة المتعددة.

إن الرحلة اللغوية من الفلسفة إلى الرواية تمثل بحد ذاتها مركزية معرفية توضح الحدود الفاصلة بين تفسير الوعي الاجتماعي وتأويل النص الأدبي. كما تمثل إعادة بناء للتاريخ الغامض في المراحل الزمنية، والتاريخ الكامن في أعماق الإنسان السحيقة. وهذا يكشف العلاقة التبادلية بين المؤلف والنص، وكيفية التفاعل بين التاريخ والأساطير والفلسفة والأدب، وصولًا إلى القوانين الضابطة لعملية استنباط الأفكار من النص، باعتباره فضاءً مفتوحًا من الدلالات الخفية اللانهائية.

مشاركة المقال: