يعيش العالم العربي لحظة انحسار تاريخية، تتقاطع فيها مشاريع التطبيع مع إسرائيل مع انهيار ما تبقّى من النظام القومي العربي، وتراجع الخطابات الكبرى التي شكّلت تعريف الصراع الإقليمي لعقود.
في هذه اللحظة، يُقدَّم كل شكل من أشكال المعارضة للتطبيع على أنه «حمق سياسي» أو رومانسيات لا تليق بعصر «البراغماتية». ويُتهم من يرفض التسويات المجانية بأنه يفتقر إلى فهم «قوانين المرحلة». في هذا السياق، يستعرض هذا المقال محطات تاريخية من محاولات تسويق التطبيع كحلّ وحيد، وتشويه خطاب المقاومة عبر أدوات إعلامية متعددة.
النيل من ناصر… خدمةً للتطبيع
منذ مدة، عاد الرئيس المصري جمال عبد الناصر إلى المشهد العام العربي بتسجيل صوتي مجتزأ يظهر واحداً من رموز النضال الوطني، وهو يعبّر عن رفضه لخوض حرب جديدة ضد إسرائيل، قائلاً: «نحن لن نحارب، ومن يريد أن يحارب فليأتِ ويحارب، وحلّوا عنّا بقى». ما أثار جدلاً واسعاً في منصات التواصل الاجتماعي، حيث تساءل عدد من النشطاء عن توقيت نشره وأهدافه المحتملة.
لم تكن هذه الحملة ضد عبد الناصر حدثاً معزولاً. منذ وفاته عام 1970، انطلقت حملة إعلامية ممنهجة لتقويض إرثه القومي، قادتها وسائل إعلام مصرية وخليجية، في سياق إعادة رسم الخطاب السياسي العربي بما ينسجم مع مشاريع التسوية.
شملت هذه الحملة الصحافة المصرية التقليدية، على رأسها جريدة «الأخبار اليوم» التي كان يديرها الأخوان مصطفى وعلي أمين، اللذان ارتبطا بعلاقات وثيقة مع الأجهزة السياسية في القاهرة والرياض، وواجهت علاقاتهما اتهامات بالتعاون مع السفارة الأميركية في مصر.
لعبت أيضاً وسائل إعلام خليجية مقرها لندن، دوراً أساسياً في الترويج لخطاب مناهض لعبد الناصر، كما أسهمت مجلات لبنانية ممولة خليجياً كـ«الحوادث» في نشر خطاب محافظ ومعادٍ للناصرية واليسار العربي. وركّزت الحملات على تصوير عبد الناصر كـ«ديكتاتور» و«مغامر»، والتقليل من إنجازاته الاقتصادية والاجتماعية، مع الترويج لتقارير مشكوك في صحّتها تدعو إلى قبول «السلام» مع إسرائيل كخيار وحيد.
دفن المقاومة «رمزياً» لا يعني نهاية قصتها
ومع تطور الإعلام الرقمي، انتقلت هذه الحملات إلى منصات إلكترونية ممولة خليجياً، تستهدف معارضي اتفاقات إبراهام، وتُروّج لفكرة أنّ المقاومة عبثية، وأن التسوية هي الحل «العقلاني» الوحيد.
وفي هذا السياق، نُشر التسجيل الصوتي الذي يعود لعام 1970 لعبد الناصر وهو يتحدّث مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، بما يُظهر تردد عبد الناصر في خوض حرب جديدة ضد إسرائيل.
تزامن ذلك مع انتشار خطاب إعلامي يروّج لسردية التطبيع مقابل الرخاء الاقتصادي الذي لا يبدو أنّ مصر التي كانت أول الدول المطبّعة تعيشه اليوم. إذ نشر موقع «هآرتس» الإسرائيلي مقالاً حول التحديات التي تواجهها القاهرة، التي كانت يوماً لاعباً محورياً في ملفات الحرب والسلام، وها هي اليوم تسعى إلى الحفاظ على الحد الأدنى من وزنها الإقليمي.
وفي السياق نفسه، نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» مقابلة مع عمرو موسى، قال فيها إنه فقد إيمانه بعبد الناصر يوم اندلاع حرب 1967، متّهماً الخطاب الرسمي بالكذب. المقابلة أعادت إلى الأذهان الهجوم الذي شنّته الصحيفة نفسها على محمد حسنين هيكل وكتابه «خريف الغضب» في الثمانينيات، في سياق تصفية الخط القومي.
من القاهرة إلى دمشق… إعادة تشكيل السردية
وكما أسهمت الحملة الإعلامية على عبد الناصر في التمهيد لتطبيع مصر، شهدت سوريا مساراً مشابهاً في مرحلة ما بعد النظام البعثي، خصوصاً بعد سقوطه في أواخر 2024. بينما تبنّت سوريا الرسمية، لعقود، موقفاً معلناً ضد التطبيع، ودعماً للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، تشهد المرحلة الحالية محاولة إعادة كتابة السردية السياسية السورية، بتشكيك في هذه الثوابت ذاتها.
ومنذ عام 2011، بدأت بعض المنصّات الترويج لاتهامات تُفيد بأن النظام البعثي قدّم تنازلات سرية بشأن الجولان، رغم نفي ذلك في مذكرات رسمية، بينها مذكرات نائب الرئيس السابق فاروق الشرع. ومع فشل هذه المزاعم في التثبيت، تحوّل الخطاب إلى تحميل رفض التطبيع مسؤولية الأزمة السورية، وطرح التطبيع كخلاص اقتصادي للبلاد. وفي سياق الترويج لهذه الفرضية الجديدة، تمثّل أحدث هذه الموجات في تقرير لمنصة إعلامية تدعى «جسور»، تعرض شهادات لمواطنين سوريين يدعمون التطبيع كحل للأزمات المعيشية.
في موازاة ذلك، انتشرت فيديوهات تُظهر التشفّي بضريح حافظ الأسد، أبرزها زيارة الشيخ عدنان العرعور برفقة مسلحين، في مشهد اعتبره بعضهم إهانةً رمزية لحقبة كاملة. الرمزية الإعلامية هنا ليست جديدة؛ فقد شبّه بعضهم ما حدث للأسد بما حدث لأوليفر كرومويل في إنكلترا، الذي كان قد قاد أول ثورة في أوروبا ضد الملكية.
إلا أنه بعد موته، عادت الملكية وتم نبش قبره بعد وفاته وأُعدم رمزياً. محمد حسنين هيكل نفسه استعاد هذه القصة في كتابه «قصة معركة خفية بين الصحافة والسياسة»، محذّراً من احتمال تكرارها في العالم العربي، بقوله: «إن أحداً لم يفعل هذا حتى اليوم… ومع ذلك، فأنا لا أستبعد حدوثه في يوم من الأيام».
بعد نصر الله… استهداف رمز المقاومة في لبنان
من مصر وسوريا إلى لبنان، يتواصل المسار نفسه. إلا أنّ الحملات الإعلامية بدأت تتخذ شكلاً أقل مهنية وسطحيةً سواء عبر منفذيها أو خطابها، فمع اغتيال الأمين العام لـ «حزب الله»، السيد الشهيد حسن نصرالله، وسقوط النظام السوري، انفجرت حملة إعلامية تستهدف ما تبقّى من خطاب المقاومة، وتعيد تدوير سرديات الحرب الأهلية اللبنانية.
قنوات لبنانية مثل «الجديد» وMTV، وبعض المنصات الخليجية، سارعت إلى شيطنة رمزية نصر الله، وربطها حصرياً بالانقسام الطائفي. في المقابل، حضر في الخطاب اللبناني حرص هذا الإعلام على ضمان صيف آمن للسيّاح العرب فيما غابت التغطية الجدية للاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الجنوب أو الحرص على خوف اللبنانيين هناك، بينما احتلت مشاريع «الحياد» المزعوم واجهة النقاش العام.
هذا النوع من التغطية الإعلامية يُعيد إلى الأذهان ما واجهه هيكل بعد رحيل عبد الناصر، حين تحوّلت الصحافة إلى أداة تصفية رمزية للخط القومي. واليوم، تتكرر التجربة: من مقابلات عمرو موسى، إلى مقالات «هآرتس»، إلى منصات ممولة خليجياً تسوّق لفكرة أن «البراغماتية» هي الطريق الوحيد.
التاريخ لم يُغلق بعد
الحملة المستمرة ضد رموز المقاومة، وتشويه الخطاب المناهض للتطبيع، ليست معزولة عن السياق الإقليمي الأوسع لإعادة إنتاج الوعي السياسي في العالم العربي، بل تأتي في إطار هندسة شاملة للمخيال الجمعي، عبر أدوات إعلامية تتكامل مع التحولات السياسية.
مع ذلك، فإنّ دفن المقاومة «رمزياً» لا يعني نهاية قصتها. فكما قال محمد حسنين هيكل: «احتفظوا بثقتكم في الشعب»، إذ إن التاريخ نهر لا يتوقف. ما يُدفن اليوم، قد ينبعث غداً من جديد، كما حدث في انتفاضات الأرض الكبرى، وكما يحدث دائماً حين لا تُمحى ذاكرة الشعوب.