في ظل تصاعد الجدل حول قرارات الإفراج عن عدد من ضباط النظام السابق الذين سلموا أنفسهم بعد سقوط نظام الأسد، برز تساؤل جوهري يطرح نفسه بقوة على الساحة السياسية والمجتمعية: هل يمكن تحقيق “السلم الأهلي” عبر إشراك من يُتهمون بالتورط في ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات بحق المدنيين؟ أم أن هذه القرارات تقوّض العدالة وتُبقي على الإفلات من العقاب؟
أعلنت وزارة الداخلية السورية مؤخرًا عن إطلاق سراح مجموعة من ضباط النظام السابق الذين سلموا أنفسهم في العراق ومنطقة السخنة بموجب سياسة “الاستئمان”. وأكدت الوزارة أن التحقيقات لم تثبت تورطهم في جرائم حرب أو تعذيب.
لكن هذه الخطوة أثارت جدلًا حادًا، إذ يرى منتقدون أن الإفراج عن أشخاص يُشتبه بتورطهم في انتهاكات جسيمة يهدد بتقويض الثقة في العملية الانتقالية، كما ويثير غياب التحقيقات الشفافة الشكوك حول التزام الحكومة بالعدالة.
لجنة السلم الأهلي: ضمان الاستقرار المجتمعي
ويضع هذا القرار السلطات السورية أمام اختبار صعب: كيفية الموازنة بين تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات السابقة وتعزيز المصالحة الوطنية. ومع استمرار الجدل، تتزايد الدعوات إلى إنشاء آليات تحقيق مستقلة وشفافة لضمان عدم إفلات المتورطين في الجرائم من العقاب، بينما يتم التعامل بحذر مع قضايا قد تؤجج الصراعات الداخلية.
أكد حسن صوفان، عضو اللجنة العليا للسلم الأهلي، أن قرار الإفراج يأتي ضمن استراتيجية شاملة لتهدئة التوتر المجتمعي، خاصة في المناطق التي شهدت انقسامًا عميقًا بين المؤيدين والمعارضين للنظام السابق. وأضاف: “فادي صقر تم منحه الأمان من القيادة السورية لأنه كان سببًا في إغلاق أبواب فتن كبيرة كانت ستُكلف الدولة كثيرًا. نحن نتفهم غضب عائلات الشهداء، لكننا نعمل على منع فوضى أكبر”.
ويمثل قرار إطلاق سراح الضباط خطوة مثيرة للجدل ضمن جهود الحكومة السورية لتعزيز الاستقرار. ورغم أن الهدف هو تهدئة التوترات، فإن غياب الشفافية والتحقيقات الموثوقة قد يعيق تحقيق العدالة ويؤثر على المصالحة الوطنية.
التسوية السياسية لا تساوي العدالة
رفض المحامي المختص بالقانون الدولي، المعتصم الكيلاني، التعامل مع هذه القرارات باعتبارها خطوات نحو تحقيق السلم الحقيقي، مؤكدًا أن “المجرمين لا يبنون السلام، بل يقوّضونه”. وقال الكيلاني: “إشراك شخصيات يُشتبه بتورطها في جرائم حرب في أي مشروع يتحدث عن السلم الأهلي هو تناقض صارخ مع مبادئ العدالة الانتقالية الدولية. السلم الحقيقي لا يمكن بناؤه على إنكار الحقائق أو تسويات سياسية هشة”.
وأشار إلى أن العدالة الانتقالية، كما عرفتها الأمم المتحدة، تقوم على أربع ركائز أساسية: المساءلة، الحقيقة، جبر الضرر، وضمانات عدم التكرار. ورأى أن “منح الأمان لأشخاص مثل فادي صقر أو خالد الأحمد، والذين ذُكرت أسماؤهم في تقارير موثقة عن جرائم بشعة، يمثل إهانة صارخة للضحايا، ويقوي ثقافة الإفلات من العقاب. لا سلام بدون عدالة”.
هل يمكن تحقيق العدالة والسلام معًا؟
الجدل القائم حول قرارات الإفراج لا يعكس فقط اختلافًا في الرؤى القانونية أو الأخلاقية، بل يعكس أيضًا تعقيدات المرحلة الانتقالية في سوريا الجديدة، حيث تحاول القيادة تحقيق التوازن بين مطالب العدالة وضرورات الاستقرار. ويحمل الاعتماد على “التقاطعات السياسية” بدلًا من الآليات القانونية المستقلة مخاطر كبيرة على مستقبل السلم الأهلي، خاصة إذا ما استمرت محاولات “تعويم” مجرمي الحرب وإدخالهم في عملية البناء الوطني.
التوازن بين العدالة والاستقرار
ويعكس الجدل حول الإفراجات تعقيدات المرحلة الانتقالية في سوريا، إذ تسعى القيادة الجديدة لتحقيق توازن بين مطالب العدالة وضرورات الاستقرار، لكن الاعتماد على تسويات سياسية بدلًا من آليات قانونية مستقلة يحمل مخاطر كبيرة.
حذّر الناشط الحقوقي محمد عيد من أن استمرار المهادنة مع الشخصيات المتورطة في الجرائم السابقة يزيد من الاحتقان في الشارع السوري، ويهدد بانفجار اجتماعي غير مسبوق. وقال عيد: “إبقاء مجرمي الحرب في مواقع النفوذ أو منحهم الأمان يجعل الشارع السوري يغلي على فوهة بركان. فالشعب السوري دفع ثمنًا باهظًا، ولا يمكن لأي مشروع تحت عنوان السلم الأهلي أن ينجح دون محاسبة مرتكبي الجرائم”.
وأضاف: “الشارع الثوري فقد ثقته بقدرة الحكومة على إعادة ترتيب الأولويات، خاصة مع وجود شخصيات مثل فادي صقر في لجنة السلم الأهلي. إذا لم يتم تدارك الأمور، فإننا ذاهبون إلى تصعيد كبير”.
الحقيقة قبل المصالحة
وفي ظل غياب آليات واضحة للعدالة الانتقالية، وغياب تواصل حقيقي مع ضحايا النظام السابق وأسرهم، فإن الطريق نحو المصالحة يبدو مليئًا بالتحديات.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن تحقيق سلم أهلي حقيقي دون مساءلة مرتكبي الجرائم؟ أم أن ما يجري مجرد محاولة لإعادة تدوير النخب القديمة تحت عنوان جديد؟ الجواب، ربما، لن يكون في بيانات اللجان أو تصريحات المسؤولين، بل في الشوارع، وفي قلوب أولئك الذين ما زالوا ينتظرون تحقيق العدالة في قادمات الأيام.