حيدر البطاط*
لقد بدأ العد التنازلي لنهاية العالم كما نعرفه، وهذه ليست نبوءة فلسفية أو خيالًا مستقبلياً، بل حقيقة تتشكل أمام أعيننا بخطى متسارعة ومخيفة. ما نحن مقبلون عليه خلال السنوات القليلة المقبلة لا يشبه تطوراً طبيعياً في الحضارة، بل يشبه انقراضاً جماعياً لأنظمة بأكملها كانت تشكل عصب الحياة في القرن العشرين: النفط، السيارات، الصناعة، التأمين، التعليم، الصحة، والعقارات، كلها تقف الآن على حافة السقوط، تُضرب بقوة الذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء، فتتهاوى كأحجار دومينو في مشهد انهيار شامل لا يمكن وقفه.
السيارة التي طالما اعتُبرت رمزاً للحداثة لم تعد وسيلة نقل فحسب، بل تحولت إلى حاسوب ذكي يسير على عجلات، لا يحتاج إلى سائق ولا إلى صيانة ولا حتى إلى وقود. لم يعد أحد يشتريها، لا أحد يقودها، ولا أحد يصلحها. كل ما تحتاجه هو لمسة على شاشة هاتف، فتأتي إليك حيثما كنت، تنقلك، ثم تختفي، معلنة نهاية مفهوم ملكية السيارة، ومعه نهاية الملايين من الوظائف المرتبطة بها.
غير أن المأساة لا تتوقف عند حدود السيارة، بل تمتد إلى العالم الذي شُيّد حولها. محطات البنزين تتجه إلى الاندثار، وصناعات الزيوت والإشكمانات والرادياتيرات في طريقها إلى الزوال الكامل، وشركات التأمين تفقد مبرر وجودها مع اختفاء الحوادث. أما المدن، فستتغير ملامحها، إذ تُهدم مواقف السيارات، ويُعاد تخطيطها لتُزرع حدائق بدلًا من الإسفلت والزحام. النفط، الذي كان يوماً سلعة استراتيجية تحكمت بمصائر الدول، سيتحوّل إلى بضاعة راكدة لا تجد من يشتريها.
كل ما شُيّد في القرن الماضي، كل ما اعتقدنا أنه راسخ لا يتزعزع، ينهار اليوم أمامنا. لقد اختفت شركات عملاقة مثل كوداك لأن الكاميرا أصبحت في جيب كل إنسان، وظهرت شركات جديدة لا تملك من الأصول شيئاً، لكنها تهيمن على العالم. فـAirbnb لا تملك فندقاً واحداً، لكنها أكبر سلسلة ضيافة في العالم. وUber لا تملك سيارة واحدة، لكنها تسيطر على قطاع النقل. وFacebook تطور برامج للتعرف على الوجوه أدق من قدرة البشر، بينما Watson من IBM يُشخّص الأمراض ويقدم استشارات قانونية أفضل من الطبيب والمحامي.
نحن لا نتحدث هنا عن تحسينات تدريجية، بل عن زلزال تقني يهدد بإزالة أكثر من تسعين بالمئة من وظائف المحاماة والطب والتعليم. كل ما يمكن استبداله بالتكنولوجيا سيُمحى، وما سيبقى فقط هو الإبداع البشري الخالص، الموهبة، والقدرة على التفكير خارج الصندوق.
حتى الصحة، التي ظلت لعقود حكراً على العيادات والمستشفيات، ستُعاد صياغتها من جديد. هاتفك الذكي سيتحول إلى طبيب متنقل؛ يكفي أن تنفخ فيه، أو ترسل صورة، أو تضع قطرة دم، ليكشف لك أكثر من خمسين مؤشراً حيوياً، ويخبرك بأمراضك حتى قبل أن تظهر.
البيوت ستنتج طاقتها بنفسها، وتبيع الفائض، بينما المفاعلات النووية ستُغلق تدريجياً. المدن ستتحول إلى مساحات خضراء ذكية، تتلاشى منها النوافذ السوداء ويحل محلها الضوء والنبات والهواء النقي. أما شركات النفط، فستحاول عبثاً عرقلة صعود الطاقة الشمسية، لكنها ستسقط في النهاية كما سقطت الديناصورات في عصر الجليد.
نحن اليوم في قلب ثورة صناعية رابعة، ثورة لا ترحم، لا تنتظر، ولا تساوم. من لا يتأقلم معها يندثر، ومن لا يغيّر طريقه ينقرض، ومن لا يستوعب صدمتها سيكون الضحية المقبلة.
مرحبًا بكم في عالم جديد. عالم بلا وقود، بلا وظائف تقليدية، بلا أمانٍ قديم. عالم يُديره الذكاء الاصطناعي، ويعيد تشكيل كل ما كنا نظنه مستقراً. ليس هذا هو المستقبل البعيد، بل هو الحاضر ذاته، ونحن الآن في قلب العاصفة.
*خبير اقتصادي ونفطي عراقي
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار