نريد العمل بنظام التيار المستمر والإصلاحات الدائمة، ولا نريد أن يكون الإصلاح تغييراً عابراً مثل العاصفة.
مع انتصار الثورة وانتهاء حكم الأسد، ودخول عدد كبير من كوادر حكومة الإنقاذ إلى الدوائر والمؤسسات الحكومية، يمكن تقسيم الوضع في الوزارات والدوائر العامة إلى مرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأولى:
سادت آلية متشابهة عمومًا في كافة الدوائر الحكومية:
- في البداية، هرب كل شخص "شبيح" أو فاسد بدرجة كبيرة جداً ولم يبقَ في سوريا، بل تسلل إلى لبنان ودول أخرى.
- تم استقدام كادر عمل ضمَّ:
- موظفين من حكومة الإنقاذ.
- شخصيات ذات ثقة من "الهيئة" للإشراف والمتابعة.
- كان هناك بعض المستفيدين (الذين اعتقدوا أن الأمر تقاسم "كعكة") دخلوا عبر أقاربهم للعمل في المؤسسات الحكومية.
- تم استلام الملفات الرئيسية في كل مؤسسة، وتعيين مدراء ومشرفين من حكومة الإنقاذ مع الإبقاء على المدراء السابقين وحتى الوزراء أحياناً وذلك لفترة مؤقتة لاستلام الملفات.
- بدأ المدراء الجدد بمحاولة فهم العمل والمسؤوليات وآليات عمل المؤسسات والمديريات. وكانت الاستعانة الرئيسية بالسابقين - الذين أغلبهم من لون واحد، وتعيينهم تم على أسس غير سليمة ودون تكافؤ فرص. وقد حاول البعض إثبات كفاءته، بينما دخل آخرون من مداخل دينية.
- على مسار آخر: عملت في كل وزارة لجنة لتقييم العاملين بهدف استبعاد الفائض والمستهتر وغير الكفء. وكان عمل هذه اللجنة محاطاً بالسرية والتكتم الشديد - وهذا أمر جيد جداً.
- سادت حالة خوف عمّت جميع الموظفين. وتحفظ الكثيرون عن الكلام عن الفساد وحالاته والمسؤولين عنه خوفاً من أن يكونوا ضمن موجة التغيير القادمة. فالكل يترقب مصيره وغير معني بفتح أي ملف قد يؤدي إلى إطاحة اسمه.
- بعد ذلك، صدرت قوائم الفصل للموظفين في غالبية الوزارات والمؤسسات، وأطيح بعدد من البارزين. ولكن تم تجاوز الكثير من الفاسدين الذين سايروا الموجة وانتظروا نهايتها.
المرحلة الثانية:
انتهى عمل لجان التقييم وبدأ العمل الفعلي في الوزارات والمؤسسات والشركات والمديريات والدوائر. وبرز هنا مستويان من التغييرات:
- مستوى الموظفين القدامى والطبقة الثانية (التي لم يصلها الفصل): بدأت هذه الطبقة بالتغلغل مع المدراء الجدد. وأهم خطوة قامت بها كانت استمرار حجب المعلومات والعمل عن الطبقات الأدنى مهما بلغت كفاءتها. الهدف: تطبيق عزل بين المدراء الجدد والموظفين القدامى الذين يملكون ملفات الفساد والمحسوبيات وطرق التعيينات المشبوهة. مارسوا احتكاراً للوصول إلى المدراء الجدد، واحتكاراً في إيصال المعلومات واحتكاراً للعمل.
- المدراء الجدد: ليس لديهم علم كافٍ أو دهاء بأساليب الفساد القائمة. مصدر معلوماتهم الرئيسي هم الموظفون من الطبقة الثانية (كرؤساء الدوائر). بل تمادى الفاسدون إلى حد المشاركة في القرار بطرق غير مباشرة، وكأنهم جزء من الثورة! كل هذا الفساد والتعويم تحت حجة "الخبرة" و"فهم العمل المطلوب" وغيرها من الحجج. بل وصل التمادي إلى محاولة إرجاع المفصولين من الفاسدين بحجج مثل "أن الفساد حالة عامة نتيجة الفقر السابق".
- ضعف المدراء الجدد: فهمهم للعمل محدود ويحتاجون وقتاً لإدراك الخفايا من جهة، وهم بعيدون عن استقصاء الحقائق وخفايا العمل من جهة أخرى.
مثال صارخ (الفساد يعود بنفس الأساليب):
بعد فترة، عاد تسويق بعض قصص الفساد تحت مسميات متعددة. وبدأت الطامة الكبرى. على سبيل المثال: بدأت الشركة السورية للنفط والمؤسسة العامة للنفط بمنح دوام إضافي للموظفين دون دوام حقيقي - وهو أمر كان موجوداً فيما مضى. وتم اليوم تسويقه تحت حجة "دخل الموظف الضعيف". مع هذه الثغرة، ظهرت ثغرات أخرى. ففي الماضي، كان هناك تلاعب بساعات الإضافي (خاصة بالمؤسسة العامة للنفط)، حيث كان مسؤول الموارد البشرية يوزع ساعات التكليف الإضافية على أسس طائفية ودون معايير أو محاسبة، ويضع لنفسه كامل ساعات الدوام الإضافي وأيام السبت. اليوم، مع عودة نظام الإضافي، عادت نفس الظاهرة بشكل مختلف بعض الشيء.
الاستنتاج: لا يمكن تسويغ الفساد تحت أي اسم أو مسمى أو حجة.
نتائج الوضع الحالي:
- ضعف الكفاءة والتعيينات الخاطئة: نتيجة ما سبق، أصبحنا نرى الكثير من التعيينات الخاطئة. ولولا الإعلام، لَتَمَّ تدوير الكثير من الوجوه الفاسدة. فمع كل تعيين، يعود الناشطون والمتابعون والمدركون للتاريخ ليثبتوا فساد المعينين عبر صور وفيديوهات. ولكن الكثير من التعيينات بقيت دون كشف فساد المعينين، والكثير من الفاسدين بقوا في مناصبهم.
- صمت وإحباط الموظفين المهمشين: بقية الموظفين الذين تم تهميشهم زاد إحباطهم وهم صامتون بسبب عدم ثقتهم بقدرة القادمين على التغيير. هؤلاء (الذين يملكون خفايا الفساد) لن يجيبوا إذا سُئلوا حتى يثقوا بالتغيير وبوجود حماية كافية وحقيقية لهم.
- الحل المطلوب (لجنة رقابة قوية وسرية): هذا يحتاج إلى وضع معايير واضحة وخطة واضحة، وإنشاء مكتب رقابة قوي وفعال ذي صلاحيات، مرتبط بالإدارة وتحت إشرافها، ويكون التبليغ له سرياً. عندها سيجمع هذا المكتب كل التفاصيل والخفايا. وربما يجب اعتماد برنامج إلكتروني للإبلاغ عن الفساد في كل مؤسسة، على أن يكون الفريق المشرف عليه ذا صلاحيات وتحت إشراف الإدارة العليا.
- خطأ في آليات المحاسبة: من المهم ألا تكون معالجة المخالفات المتعلقة بقضايا الفساد باجتهادات المسؤولين وكأننا ما زلنا بنظام الإمارة وطريقة شيوخ العشائر. فقد شاهدنا حالات تم فيها استصغار قضايا فساد، مما أساء للمبلغ وجعله في مرمى الفاسدين.
مشكلة في التعيينات الجديدة:
على مستوى القادمين من حكومة الإنقاذ، بدأ الاعتماد والتعيين على أساس الشهادات والولاءات و"القدم في الانتساب للثورة". وقاد هذا إلى تغيير في التعيينات وتنافس ما.
خلاصة المرحلة الثانية:
هدأت "العاصفة" وانتهت اللجان، وبدأ تقسيم العمل. فأصبح لدينا حاجز كبير بين الإدارة العليا للمؤسسة والموظفين، مما أعادنا للمربع الأول. تم تقسيم الصلاحيات وعاد العمل وفق النظام السابق دون وجود لجنة مركزية لمكافحة الفساد. أصبح كل مدير جديد منعزلاً في عمله ودائرته. وتم التعيين والتقاسم وفق الشهادات، فتكونت هوة حتى بين المدراء أنفسهم وبينهم وبين "ثقات القيادة" و"الأمراء".
محاولات متأخرة للكشف:
في المرحلة الثانية، تشجع بعض الموظفين - بعد انتهاء موجة الفصل - على الكلام نتيجة إحباطهم، ولكنهم وصلوا متأخرين.
فقدموا ملفات فساد كانوا يمتلكونها (كانوا خائفين في المرحلة الأولى وأصيبوا بالإحباط لاحقاً) نتيجة عودة اتباع نظام التبليغ الكتابي البيروقراطي القديم. نحن بحاجة للاستقصاء عن أي فساد من خلال لجنة ثابتة، دون الحاجة لاتباع نظام بطيء.
- مثال صارخ على عدم الاستجابة: في وزارة النفط، تم الإفصاح عن أشخاص عملوا لدى شركات أمنية روسية تابعة لفاغنر (مثل شركة يوربوليس)، وأشخاص عملوا مع شركات القاطرجي وحصلوا على مكافآت، ولكن لم تكن هناك استجابة حقيقية – رغم أن من فُصل في المرحلة الأولى كانت قصصهم أبسط من ذلك بكثير!
بكل الأحوال، هناك الكثير من الإيجابيات ولكن هناك أيضاً الكثير من السلبيات.
نرجو ألا تُسرق الثورة عبر اتباع النظام الذي خلَّفه لنا الأسد. الإصلاح مطلوب.
زمان الوصل