عنب بلدي – كريستينا الشماس
في ورشة صغيرة بحي القيمرية بدمشق، يجتمع عدد من حرفيي "الزخرفة الدمشقية"، ليصدروا إلى العالم تاريخًا يعكس أصالة المهنة الدمشقية التي يعود عمرها لأكثر من مئتي عام.
"الزخرفة في حياتي تشبه دقات قلبي، تعتبر كنفس من أنفاسي"، هكذا بدأ الحرفي محمد حاج قاب، مدير مركز الفن الدمشقي، حديثه لعنب بلدي، عن مهنة الفن الدمشقي، إذ استطاع أن يترجم عبر لوحاته تاريخ وأصالة الحرفة الدمشقية.
تعددت الأسماء والمهنة واحدة
تميز الدمشقيون بفن الزخرفة منذ مئات السنوات، واشتهروا بتصاميمهم ورسوماتهم المتنوعة على أسقف وجدران منازلهم وجوامعهم. كانت تلك الحرفة مرآة الحضارات التي مرت عليها سوريا، وعكست نظم الحياة والعادات والتقاليد لمراحل تاريخية متلاحقة، وما ميز هذه الحرفة أنها يدوية بكل تفاصيلها، إذ يعود تاريخ أول لوحة زخرفية لعام 1540 أي قبل 520 عامًا.
تعددت الأسماء التي أطلقت على فن الزخرفة الدمشقية، مثل: الفن العجمي، الزخرفة النافرة، الزخرفة النباتية، الفن الإسلامي، الفن البيزنطي. ولكن الحرفي محمد حاج قاب أطلق على هذه المهنة اسم "الفن الدمشقي" لعدة أسباب، أولها أن هذه الحرفة تعبر عن مدينة دمشق التي اشتهرت بها مقابل مثيلاتها من المدن السورية، إضافة إلى أن الإعلام سلط الضوء على الفن الدمشقي بطريقة جذبت أنظار العالم، من خلال المسلسلات التي تحمل طابع البيئة الشامية، ما جعل العديد من محبي هذا الفن في دول الخليج والدول الأوروبية، يطلبون لوحات الفن الدمشقي لتزيين منازلهم، بحسب محمد.
وأيضًا غياب تدريس الفن الدمشقي في كليات الفنون الجميلة بالجامعات السورية، ولّد لدى محمد دافعًا ليطلق على لوحاته الزخرفية لقب "الفن الدمشقي".
طريقة التصنيع
تمر لوحات الزخرفة الدمشقية بعدة مراحل تتطلب كل منها جهدًا ودقة ووقتًا في إنجاز العمل الفني الذي قد يستغرق أشهرًا لإنجاز تفاصيل كل لوحة دمشقية، وتشمل تلك المراحل:
- رسم الزخرفة: تنطلق رحلة اللوحة الدمشقية من الورق، فيجسد الحرفي التصميم الزخرفي بدقة متناهية على صفحات بيضاء، في هذه المرحلة التأسيسية ترسم الخطوط الأولى لتتحول لاحقًا إلى لوحة زخرفية متكاملة.
- التثقيب: يثقب الشكل المرسوم على الورق باستخدام أدوات دقيقة، ضمن مسارات الزخرفة المرسومة، هذا التثقيب يسمح بمرور ذرات الفحم لاحقًا، والتي ستلعب دورًا محوريًا في نقل التصميم إلى الخشب.
- نقل الرسم (الطبع بالفحم): يوضع الورق المثقب على سطح القطعة الخشبية المعدّة، وتنثر ذرات الفحم عبر الثقوب بعناية، لتتكون من ذلك البصمة الأولى للتصميم على الخشب، تمهيدًا للمراحل اللاحقة من العمل.
- التنفير: باستخدام ريشة فائقة الدقة، يبدأ الحرفي بتحديد الخطوط الزخرفية على الخشب، هذه المرحلة تعد من أكثر المراحل التي تتطلب تركيزًا وثباتًا في اليد، لما لها من دور أساسي في إبراز التفاصيل الدقيقة للتصميم.
- التلوين: توزع الألوان بعناية على مناطق الزخرفة، وفق توازن بصري مدروس، والألوان هنا لا تستخدم للزينة فحسب، بل تضيف بعدًا جماليًا وروحيًا يعكس الذوق الدمشقي.
- التذهيب: يُضفى على اللوحة بريق خاص من خلال استخدام نترات النحاس الممزوجة بمادة "التنر"، تنفذ هذه المرحلة بحذر شديد لإبراز بعض التفاصيل بتأثير ذهبي لامع يُضفي فخامة ودفئًا على العمل.
- القطع: يعاد تحديد الخطوط الزخرفية بدقة وثبات، لإبراز التفاصيل ولمنح الزخرفة حضورًا أقوى على سطح اللوحة، هذه المرحلة تضمن انسجام الخطوط وتناغم الحواف.
- الظفرات: وهي المرحلة الأكثر تعقيدًا، إذ تتطلب حسابات هندسية دقيقة لإبراز الزخرفة بأبعاد نافرة تعطي اللوحة عمقًا بصريًا وتجسيدًا ملموسًا وبعدًا ثالثًا.
واقع المهنة
تواجه مهنة الفن الدمشقي، كمثيلاتها من المهن الدمشقية القديمة، تحديات عدة تتمثل في تغير أنماط الحياة الاستهلاكية، بالإضافة إلى نقص الأيدي العاملة المدربة وغلاء المواد الأولية، كما أن كثيرًا من الورشات التقليدية أغلقت أبوابها أو تقلص نشاطها.
ويواجه الحرفيون القدامى صعوبة في نقل مهاراتهم إلى جيل الشباب، للحفاظ على المهنة من الاندثار، فالمتعارف على المهن اليدوية الدمشقية أنها "متوارثة عبر الأجيال".
"قد تندثر المهنة بعد مئة عام"، هكذا يعبر الحرفي محمد عن قلقه حول مستقبل المهنة إذا لم يُخلق جيل جديد يحافظ عليها، ويضيف، "أتخوف من لحظة قد تأتي ولا أستطيع أن أحمل ريشتي وأكمل لوحاتي كما اعتدت طيلة حياتي"، قال محمد.
حرفي.. بصري.. رحّالة
لم تكن الحرفة الدمشقية التقليدية وحدها من شكلت مسيرة الحرفي محمد حاج قاب، بل كانت مجرد نقطة انطلاق في رحلة مهنية وحياتية متعددة الأوجه. بدأ مشواره في سن الـ12، حين التحق بمتجر يعمل في مجال الزخرفة الدمشقية، قبل أن ينتقل لاحقًا للتدرب على يد الحرفي الراحل نهاد جزماتي، المعروف بتميزه في فن الرسم، ما شكل محطة أساسية في تطور مهاراته الفنية.
كما خاض محمد تجربة العمل في مجال الخط العربي، التي تعد الأساس التقني لفن الزخرفة، ما أتاح له تنويع أنماطه الفنية واكتساب أدوات تعبيرية مختلفة. هذه المراحل المتعددة صقلت تجربته وأغنتها، قبل أن يعمّقها بدراسة أكاديمية في قسم التصوير الفوتوغرافي بمعهد الفنون التطبيقية.
إلى جانب الفن، حمل محمد شغفًا عميقًا بالاكتشاف والطبيعة، ليصبح رحالة يوثق الجمال الطبيعي والإنساني من حوله. وأسس فريق "جوالة الأرض"، الذي يضم مجموعة من الشباب السوريين، بهدف تعزيز الوعي بجغرافيا الوطن تحت شعار "اعرف جغرافيا وطنك"، من خلال نشاطات ميدانية تركّز على الجوانب الطبيعية والبشرية، وتسليط الضوء على شخصيات ظلت بعيدة عن الأضواء الإعلامية.
امتدت رحلات محمد إلى ما هو أبعد من الجغرافيا السورية، حيث جاب بلدانًا عربية وأوروبية، منها الأردن والمدينة المنورة وعمان وتايلاند وفرنسا واليونان وسويسرا، موثقًا تلك التجارب بعدسته. وفي سويسرا عام 2011، شارك حاج قاب في مسابقة دولية، وحاز المرتبة الأولى بلوحتين عملاقتين تجسدان جمال سوريا، وذلك ضمن فعاليات معرض "نظرة واسعة جدًا" للتصوير الضوئي الذي استضافه متحف المستشفى الوطني في جنيف.
ورغم النجاح، عبر عن أسفه لغياب أي تمثيل سوري رسمي في الحدث، قائلًا، "حين تم عرض اللوحتين، كم تمنيت وجود شخص أو جهة من بلدي، لكن للأسف، لم يكن أحد حاضرًا من وطني الحبيب".
في رصيده ستة معارض فردية، وأكثر من مئة مشاركة في معارض محلية ودولية، نقل من خلالها صورًا لحياة شعوب وثقافات مختلفة التقاها في رحلاته. ولا يخفي محمد أسفه لغياب الدعم الثقافي في سوريا، فعلى الرغم من النجاحات التي حققها في مسيرته المهنية، لم يتلقَ دعمًا يُذكر من وزارة الثقافة سابقًا، آملًا أن تعطى جميع الفنون حقها وأن يتغير حال الثقافة في سوريا للأفضل.