عماد نداف
يحذر جورج أورويل من (الخوف الثقافي)، فيرى في روايته (مزرعة الحيوان) أن أخطر ما يواجهه الكاتب والصحفي هو الجبن الفكري. هذا الخطر عشناه في الخمسين سنة الماضية من أيام حكم غريب الطابع أنشأ آلاف المنابر الثقافية وحجب النشاط الفعلي لها، بتنصيب أشخاص تولوا المسؤولية الثقافية، وتحولوا إلى مايشبه رجال شرطة أو على الأقل شرطة مرور. عشناه لأن سطوة أدوات السيطرة في الدولة كانت مخيفة، وكنا نخاف فعلا، لكن كنا نسعى للتغيير بما هو متاح في دائرة الخوف. نجحت هذه السطوة فعلاً في إلغاء الفعل السياسي من قبل، أما الفعل الثقافي، فقد أمسكته من تلابيبه، وظل يحاول الإفلات.
ازداد الخوف الثقافي إلى الدرجة التي اقتنع فيها بعض المثقفين أن الرقابة هي مجرد محاذير من المساس بشخص الرئيس أو التحريض على دين أو طائفة، وفي واقع الأمر كانت الرقابة هي منع (منعا باتا) أي مضمون يحمل برنامجا للتغير أو للتشهير بالفساد الثقافي والسياسي والاقتصادي، فصمتت الأقلام وجفت الصحف، وتباطأت حركتنا جميعاً في النشاط الحقيقي والفعلي نحو التغيير.
بعد سقوط نظام بشار الأسد تفاءلنا، بل تفاءلت كل أطياف الشعب، وبغض النظر عن الجوانب السياسية، فإن مايهمنا هنا هو الشأن الثقافي، وتوقعنا أن تكون الثقافة مفتاحاً، لكننا في سورية لم نشهد بعد حراكا ثقافياً كما كنا نتوقع، وكل تلك المحاولات التي شهدتها بعض الأنشطة، كمحاضرة الدكتور حازم النهار، ومحاضرة الكاتب ياسين الحاج صالح وعبد الحي السيد ولقاءات اتحاد الكتاب العرب وزيارات الفنان جمال سليمان والمخرج هيثم حقي وغيرها من الفعاليات، لم تشعل الحراك الثقافي، بل على العكس كانت نموذجا محبطا للجميع، فمالبثت أن انطفأت الأمنيات، ولم تثمر في حراك ثقافي وفني لأن أولئك الذين ظنوا أنفسهم هم من حقق النصر عادوا إلى أعمالهم وتركونا.
ويظل اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة أبرز مكانين للتعرف على بوصلة ذلك الحراك، وما حصل ويحصل بطيء ومنه ما لايبشر بالخير، فقبل أيام أثار الانتباه اتهام فج تم توجييه إلى دائرة الفعل الثقافي بضفتيها، فهل هي في خطر نظرا لظهور بوادر فتنة ثقافية، وتحويل الدور الثقافي إلى مهاترات عبر الفضاء الأزرق الذي يروج ما لانريد ترويجه، ويحرق كل مايمكن أن نبنيه.
بدأت المسألة في اتهامات من هنا وهناك، وتم الصمت عليها، منها ماهو مبطن، ومنها ماهو مكشوف، وطالت الاتهامات الضفتين الثقافيتين: ضفة ماقبل السقوط وفيها آثار واضحة للخوف الثقافي رغم نظافة الأسماء وتاريخها الثقافي، وضفة مابعد السقوط وفيها آثار واضحة للتردد وفقدان الهوية الثقافية ودورها والاعتقاد بأن الأهم هو استبعاد (الفلول الثقافية) و ماهي بفلول(!!).
وبسرعة جاء الرد على لسان رئيس اتحاد الكتاب العرب الجديد محمد طه العثمان، الذي سافر لترتيب أمور عودته إلى سورية بعد توليه لمهمته الجديدة، فأعلن صراحة أنه وفي الوقت الذي لا ننام فيه إلا بعض سويعات ونحاول أن نقدم مثالا حقيقيا للفكر السوري العريق تنشر إساءات بحقي وبحق من تصدى لهذه المهمة من زملاء.
وقال: كنت أعرف منذ اليوم الأول سيطالني الكثير من الأذى ولكن كان خياري “فليطلني” طالما سيأتي يوم نكون فيه قد ردمنا الهوة وداوينا الجرح السوري النازف. كل النقد الذي يأتينا خلال شهر على استلامنا أحترمه وأقدره ونحن نشتغل على إصلاحه… لكن التشكيك والتخوين وتأليف قصص من وحي الخيال هذا أمر لم أتوقعه خلال هذا الشهر. بكل الأحوال هنالك خطة عمل وأولويات تحدثت عنها أكثر من مرة في لقاءات مع أعضاء الاتحاد في أول لقاء لي معهم.. ثم في لقائي مع الجالية السورية في قطر… واليوم في لقائي مع أعضاء المكتب في حماه ثم بعد ذلك في حمص.. والباب مفتوح لكل من يريد أن يعمل معنا في ظل هذه الظروف الصعبة. وللشفافية نهاية الشهر سنقدم جدولا عن كل ما قمنا به من أعمال.
وهذا الكلام الحرفي للزميل العثمان، يؤكد وجهة نظري، لكنه يشير أيضا إلى أن الفراغ الثقافي سيؤدي حتما إلى هذه الظواهر، وأن التردد في تحديد الأولويات وتنشيط الساحة الثقافية ودمج الفعاليات الثقافية والأقلام النظيفة سيعيق المشروع الوطني الجديد بعد السقوط.
وجاء توضيح الدكتور محمد الحوراني رئيس الاتحاد السابق في الإطار نفسه، فمن فوق قضبان الكره والجهل أعلم أنني خلف قضبان المحبة، كما جاء في تعليقه على ماكُتب عن توقيفه بتهمة الفساد، وهي واقعة غير صحيحة، وافتراء عليه، ويقول الدكتور الحوراني:
لم أكن أرغب في يومٍ من الأيام في الردّ على السفهاء والجهلة، إلا أنني اليوم مضطر لذلك.. نزولًا عند رغبة عدد من الأصدقاء الأنقياء والخلص.. وبناءً عليه أقول: من المؤسف أن تتحوّل وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصات لبثّ الافتراءات والأكاذيب، دون وازع من ضمير أو حرص على التحقق من الحقيقة. طالني اليوم منشور كاذب يروّج لفكرة أنني خلف القضبان بتهم تتعلّق بالفساد والعقود، وهو محض افتراء لا يمتّ للواقع بصلة. أحمد الله أنني حين تسلّمت رئاسة اتحاد الكتّاب العرب كنت أملك سيارة اشتريتها منذ عام 2010، وقد خرجت من الاتحاد بعد أن اضطررت لبيعها تحت ضغط الظروف الاقتصادية. وأعلن أمام الجميع: من يجد لي أموالًا أو عقارات داخل البلاد أو خارجها، فهي له دون قيد أو شرط. إن الكذب لا يضرّ صاحبه بقدر ما يفضح نوايا من يروّج له وما هذه الأساليب إلا دليل على ضيق أفقٍ وحقدٍ لا يليق بمَن يحترمون عقول الناس.
هذان الشاهدان هما من أهل البيت، ومن ضفتيه، في وقت نسعى فيه إلى ضفة واحدة يحتضنها الهم الثقافي الوطني، وهنا لابد من التأكيد أن إدارة العملية الثقافية تفتقد لأسس النجاح عندما تغفل أن حق الاختلاف في الثقافة يجب أن يصان، وأن الخطوات العملية من أجل ذلك هي في الحوار والتكاتف من أجل تشخيص الحالة والبحث عن حلول للاستعصاءات.
على فكرة، ثمة فرق بين ما تحتاجه السياسة من مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر للوصول إلى استكمال أدوات وسياسات الدولة الجديدة، وبين ما تحتاجه الثقافة، فالثقافة عملية دؤوبة تبدأ في صباح اليوم التالي، ولا تتوقف، ولا ينبغي أن تتوقف، أو تراوح في مكانها، ولاينبغي أن تستبعد الآخر.
والحقيقة التي يبنى عليها هي اتفاق وجهات النظر الذي تم في الاجتماع المشترك الذي عقد في اتحاد الكتاب العرب بحضور قيادتي الاتحاد السابقة والجديدة، رغم ما اعتراه من صخب، فهذا الاتفاق كان صحيا في ظروفه، وكان منطقيا في توجهاته، لكنه اليوم خطير في مراوحته!
اخبار سورية الوطن 2_بوابة الشرق الأوسط الجديد