على الرغم من أن الملايين من المدنيين قد لقوا حتفهم في القرن العشرين نتيجة لاستراتيجيات الحصار والمجاعة، إلا أن الجهود المبذولة للتعامل مع التجويع باعتباره جريمة حرب تعتبر حديثة نسبياً. فبخلاف جرائم الحرب الأخرى التي تم تدوينها في أعقاب الحربين العالميتين، لم يكن استخدام المجاعة كسلاح من أسلحة الصراع المسلح محظوراً رسمياً في القانون الدولي حتى عام 1977. ومنذ ذلك الحين، ورغم الحظر الصريح لعمليات التجويع، ظلت الملاحقات القضائية لهذه الجريمة نادرة للغاية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن معظم المحاكم الجنائية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك المحكمة التي أنشئت في أوائل التسعينيات بسبب الانتهاكات التي ارتكبت في يوغوسلافيا، لم تدرج المجاعة القسرية في قوانينها التأسيسية، ناهيك عن السعي إلى مقاضاتها. وبحسب تقرير أوردته مجلة «فورين أفيرز»، في نيسان الماضي، فإن أحد الأسباب الرئيسة لتلك الظاهرة هو أن فرض المجاعة، وتحديداً عبر الحصار، كان طوال القرن العشرين جزءاً لا يتجزأ من التفكير الإستراتيجي الغربي.
ووفقاً للعديد من رجال الدولة في المعسكر الغربي، فإن المجاعة كانت مرتبطة بـ«الحفاظ على النظام الدولي نفسه». فعلى سبيل المثال، أثناء الحرب العالمية الأولى، رأى مخططو الحصار في كل من ألمانيا والمملكة المتحدة أن السكان المدنيين هم العمود الفقري للجيوش الحديثة، معتبرين أن قطع الواردات الغذائية عنهم ليس أمراً مسموحاً به فحسب، بل حاجة ضرورية. وعلى هذا النحو، وابتداءً من عام 1914، فرضت المملكة المتحدة حصاراً بحرياً على جميع الخصوم الرئيسيين، مما أدى في نهاية المطاف إلى مقتل مئات الآلاف. أما في الحرب العالمية الثانية، فقد اكتسبت حملات التجويع لدى هؤلاء طابعاً أكثر أهمية.
وتردف المجلة الأميركية أنه كجزء من حربها الشاملة ضد اليابان، أطلقت الولايات المتحدة، مثلاً، عملية المجاعة، وهي عملية حصار جوي وبحري باستخدام غواصات لقطع الغذاء والمواد الرئيسة. وفي حين تمت محاسبة النازيين، بعد الحرب، على أعمال تجويع المدنيين في «محاكم نورمبيرغ»، فإن قوات الحلفاء المنتصرة لم تتعرض لأي مساءلة على الإطلاق.
وحتى بعد سقوط أدولف هتلر عام 1945، استمر الغرب في احتضان إستراتيجية المجاعة لمدة طويلة، فيما ظل النقاش حول هذا التكتيك غائباً بشكل ملحوظ عن الكثير من مفاصل القانون الدولي بعد الحرب. فعلى سبيل المثال، لم تتناول «اتفاقية الإبادة الجماعية» لعام 1948، ولا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، صراحة مسألة التجويع المتعمد للمدنيين، وإن كانت «اتفاقيات جنيف» قد تطرقت لاحقاً بشكل أكثر وضوحاً إلى الأسباب التي أدت إلى تهميش جرائم المجاعة بعد الحرب العالمية الثانية.
واللافت، أنه عقب اجتماع ممثلي الدول في جنيف في منتصف عام 1949، لصياغة اتفاقيات لحماية ضحايا الحرب، سعت العديد من البلدان والأطراف لترسيخ ضمانات إنسانية أقوى للصراعات المسلحة، وعلى رأسها «اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، ومندوبو الدول التي تم احتلالها أثناء الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي. وآنداك، دفعت الأطراف المشار إليها من أجل إقرار ضمانات حرية مرور المساعدات الإنسانية وحظر تدمير المقومات الأساسية لبقاء المدنيين.
على أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانتا مصممتين على الحفاظ على قدرتهما على فرض الحصار، وقاومتا أي أحكام من شأنها أن تحد من قوتهما البحرية أو الجوية، مدفوعتَين بتصورات حول حصارات مستقبلية محتملة ضد الخصوم الشيوعيين أو المناهضين للاستعمار. وفي نهاية المطاف، نجحت تلك القوى في تخفيف المقترحات، والتوصل إلى «حل وسط» ساهم «في إرساء الأساس لإجماع قانوني في عصر الحرب الباردة، بشأن حصار المجاعة».
ورغم ذلك، وإذ لم تعد قوى الحصار، بعد عام 1949، قادرة على استعادة الحق رسمياً في تجويع المدنيين عمداً كسلاح قانوني للحرب، فإنها تمكنت من انتزاع استثناءات كبيرة، يمكن في ضوئها اعتبار موت المدنيين «غير المتعمّد» مقبولاً من الناحية القانونية في ظل ظروف محددة. فقد استخدمت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أساليب المجاعة على نطاق واسع في حرب فيتنام، جنباً إلى جنب التدمير المنهجي للمحاصيل في المناطق المشتبه في أنها تؤوي «المتمرّدين الشيوعيين».
شكّل فرض المجاعة طوال القرن العشرين «جزءاً لا يتجزّأ من التفكير الإستراتيجي الغربي»
وفي حين ظلت آليات تحديد وقوع مجاعة غير واضحة في معظم الحروب، فإن الحصار المستمر منذ شهور على قطاع غزة شكل استثناءً، بعدما لم يحاول المسؤولون الإسرائيليون إخفاء «نواياهم»؛ إذ إنه في أوائل شهر آذار، ومع بدء انهيار وقف إطلاق النار مع «حماس»، لجأت إسرائيل مرة أخرى إلى تكتيك استخدمته في وقت سابق من الحرب في غزة، وهو فرض حصار كامل على المنطقة، بما في ذلك قطع جميع إمدادات الغذاء والدواء والوقود والكهرباء.
وكان الهدف، وفقاً لمسؤولين في مجلس الوزراء الإسرائيلي، هو جعل الحياة «لا تطاق» بالنسبة إلى مواطني غزة البالغ عددهم مليوني نسمة. وعليه، دافع وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، ووزير «الأمن القومي»، إيتامار بن غفير، عن قرار حكومة الاحتلال «الوقف الكامل» لتدفق المساعدات الإنسانية، واصفَين إياه بأنه وسيلة لفتح «أبواب الجحيم بأسرع ما يمكن وبشكل مميت قدر الإمكان». ولم تكن هذه المواقف معزولة عن ما سبقها؛ إذ كان سموتريتش قد اعتبر في وقت سابق أن منع المساعدات عن غزة له ما يبررّه، حتى على حساب المجاعة الجماعية للمدنيين.
وفي خضم الحرب التي قُتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين بوسائل أكثر مباشرة، قد يبدو الحصار الإسرائيلي المتسلسل على غزة، للوهلة الأولى، قضية ثانوية. لكن هذا التكتيك — والمبررات التي قدمها المسؤولون الإسرائيليون لاستخدامه — سرعان ما طرح «اختباراً رئيساً للقانون الدولي».
ومن هنا، يمكن فهم موقف «المحكمة الجنائية الدولية»، التي اعتبرت، في وقت سابق، أن بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت ارتكبا جريمة حرب متمثلة بـ«التجويع»، عبر الإعلان عن نية إسرائيل فرض حصار كامل على غزة، ثم اتخاذ تدابير تحرم السكان من الغذاء والسلع الأخرى. ومثلت تلك الخطوات «المرة الأولى في التاريخ التي تركز فيها محكمة كبرى على محاكمة جرائم الحرب بالاستناد إلى هذه التهمة بالذات».
ومع اشتداد المجاعة أخيراً، وسقوط المئات من الشهداء جوعاً، تتزايد الضغوط الدولية على الكيان الإسرائيلي، من دون أن تسفر، حتى اللحظة، عن أي نتائج فعلية. إذ إنه مع تعثر المفاوضات حول وقف إطلاق النار في غزة أخيراً، أصدر وزراء خارجية 28 دولة، الإثنين، بياناً مشتركاً، دانوا فيه الأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ودعوا إلى إنهاء الحرب في القطاع. وجاء في البيان إن «معاناة المدنيين في غزة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة» وتابع: «ندين التغذية بالتنقيط للمساعدات والقتل اللاإنساني للمدنيين، بما في ذلك الأطفال، الذين يسعون لتلبية احتياجاتهم الأساسية من الماء والغذاء».
كما طالبت الرسالة، التي وقعتها 24 حكومة أوروبية، بالإضافة إلى أستراليا وكندا واليابان ونيوزيلندا، إسرائيل برفع القيود التي تفرضها على تدفق المساعدات إلى القطاع والسماح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى بتوصيل الإمدادات الأساسية من دون عوائق، واصفةً الآلية المعتمدة لتوزيع المساعدات بـ«الخطيرة»، وبأنها «تحرم سكان غزة من الكرامة الإنسانية»، في إشارة على الأرجح إلى «مؤسسة غزة الإنسانية» المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة. وحذر الأمين العام لـ«الأمم المتحدة»، أنطونيو غوتيريش، من جهته، الإثنين أيضاً، من أن «شرايين الحياة الأخيرة التي تُبقي الناس على قيد الحياة تنهار» في غزة مع اقتراب المنطقة من مستويات المجاعة الجماعية.
وقوبل بيان الحكومات الأوروبية بانتقادات «لاذعة» من الخارجية الإسرائيلية التي وصفته بـ«المنفصل عن الواقع»، محمّلةً «حماس» مسؤولية استمرار الحرب. كما دان السفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي الرسالة، ووصفها بـ«المثيرة للاشمئزاز»، معتبراً أنه «يجب على المجتمع الدولي في المقابل الضغط على (حماس) لإنهاء الحرب».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار