مع تعثر المفاوضات في الدوحة، تصاعدت التوقعات بشن إسرائيل تصعيداً عسكرياً واسعاً في قطاع غزة، خاصة بعد تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، التي أكد فيها استمرار الحرب وأن حماس ستدفع الثمن، وهو ما كرره في اتصال مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي هدد الحركة بعواقب وخيمة.
لكن ما حدث لاحقاً جاء مخالفاً للتوقعات، حيث أعلنت إسرائيل عن سلسلة إجراءات بدت وكأنها انسحاب تكتيكي، شملت هُدن إنسانية يومية تصل إلى عشر ساعات، وإسقاط مساعدات إنسانية من الجو، وفتح المعابر أمام قوافل الأمم المتحدة، وتوصيل الكهرباء لمحطة تحلية المياه.
أثار هذا التحول المفاجئ تساؤلات حول أسبابه، خاصة بعد أن اتُخذ القرار على عجل ودون إعداد مسبق. أحد الأسباب المحتملة هو تفاقم مستويات الجوع في غزة، والتي وثقتها صور جثث الأطفال الذين قضوا نحبهم بسبب سوء التغذية، مثل الطفلة زينب أبو حليب، التي أصبحت رمزاً لسياسة التجويع المتعمدة.
تؤكد شهادات الأطباء في مستشفيات غزة وتقارير منظمة الصحة العالمية وتحقيقات الأمم المتحدة أن غزة تعيش مجاعة حقيقية نتيجة الحصار والقصف الممنهج ومنع وصول المساعدات.
أدى تصاعد الانتقادات الدولية إلى ممارسة ضغوط على إسرائيل، التي سعت طويلاً للتموضع كضحية، لكنها باتت تُرى كمسؤولة عن كارثة إنسانية متفاقمة. وقد أعلنت دول وازنة رفضها لسياسة التجويع، فيما ذهبت فرنسا إلى حد إعلان نيتها الاعتراف بدولة فلسطين.
لكن، هل هذا كاف لتغيير سياسات إسرائيل؟ من المنظور الإسرائيلي، فإن التراجع عن سياسة الحصار والتجويع قد يضر بمصالحها الاستراتيجية، التي تتجاوز تدمير البنية العسكرية لحماس، لتشمل كسر إرادة الصمود لدى الفلسطينيين وإثبات كلفة المقاومة الباهظة.
إن التراجع عن سياسة الحصار والتجويع، من شأنه أن يسمح لحماس بالاعتقاد بأن الصمود في وجه الضغوط يؤدي إلى نتائج، وأن المقاومة قد تفضي إلى نتائج أفضل من الاستسلام أو التفاوض تحت وطأة الإخضاع.
كما أن تعطيل أداة فاعلة في الضغط، وهي التجويع، سيفتح الباب أمام قراءة جديدة مفادها أن الإرادة الإسرائيلية ليست بمنأى عن التأثر، وأنها قابلة للانكسار تحت وطأة التداعيات الإنسانية والسياسية.
يحمل القرار تداعيات داخلية خطيرة على بنيامين نتنياهو، حيث يواجه غضب شركاء الائتلاف الحاكم واحتقان الجمهور اليميني الذي يرى في أي تنازل استسلاماً أمام الفلسطينيين.
على الرغم من أنه ليست ثمة معطيات تشير إلى أن دونالد ترامب كان وراء تراجع الحصار الإسرائيلي، فإن ذلك هو التفسير الأرجح، إذ يبدو أن الاتصال الهاتفي الأخير بين الجانبين كان إملاء سياسياً مباشراً من القوة الوحيدة التي لا يمكن نتنياهو تجاهلها: أميركا – ترامب.
وكشف مصدر إسرائيلي رفيع، لقناة كان، أن الهدف من الهدنة الإنسانية ليس تخفيف الجوع، بل تزويد الولايات المتحدة بحبل إنقاذ يمكنها من خلاله الدفاع عن إسرائيل في المحافل الدولية.
مع ذلك، لا يعني هذا التراجع أن إسرائيل تخلت عن سياسة التجويع بالمطلق، بل هو انسحاب تكتيكي مدروس ومؤقت، يُتوقع أن ينفذ بدقة، مع إبقاء العين على المتغيرات والفرص المناسبة لإعادة العمل بهذه السياسة كسلاح ووسيلة قتالية.
وما لم يكن لدى ترامب توجه مغاير، ستعود إسرائيل إلى إغلاق المعابر ومنع دخول شاحنات الإغاثة، وتستأنف حصارها للشعب الفلسطيني وتجويعها إياه، ليظل التجويع لدى إسرائيل سلاحاً وهدفاً.