عاد ملف العقوبات الأمريكية إلى الأضواء كأحد أهم معالم المرحلة الانتقالية في سوريا، عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه إنهاء حالة الحصار الذي فُرض على السوريين، والذي طال الشعب طيلة العقود الماضية. وتشمل العقوبات قطاعات النفط والبنوك والحوالات المالية، والعديد من الصناعات، إضافة إلى "قانون قيصر" الذي كان له الأثر الأكبر على الوضع المعيشي الصعب في البلاد.
لكن مجرد الإعلان لا يعني انتهاء الملف، حيث لا تزال هناك الكثير من التفاصيل والإجراءات التي يتعين خوضها، سواء على صعيد صناعة القرار في واشنطن، أو آليات التنفيذ المرتبطة بالشركات والهيئات الدولية، والأبعاد القانونية والاقتصادية للقرار.
يقول أدهم قضيماتي المحلل الاقتصادي السوري، لحلب اليوم، إن القرار يعني دخول سوريا بالمنظومة الاقتصادية العالمية وحرية التعامل المالي والاقتصادي، وهو ما سينعكس إيجابا على الوضع المعيشي للسوريين، ولكن بعد فترة ليست بالقصيرة.
من جانبه قال فاروق بلال، رئيس المجلس السوري الأمريكي، لحلب اليوم، إن رفع العقوبات أصبح ضروريا ليس للشعب السوري فحسب، بل لاستقرار المنطقة برمتها، وقد أدركت الإدارة الأمريكية ذلك مؤخرا، لكن إتمام تنفيذ القرار يحتاج لسنوات.
ويعود تاريخ فرض العقوبات الأمريكية على سوريا إلى عهد حافظ الأسد في ثمانينيات القرن الماضي، وتمت مضاعفتها على عدة مراحل عقب عام 2011، حتى تحولت إلى ترسانة من القوانين التي يحتاج فكّها إلى جهود – وفقا لمراقبين – كما أن هناك عقوبات أخرى أوروبية لا تزال قائمة، فيما يفكر القادة الأوروبيون بتخفيفها في الوقت الحالي باتجاه إلغاءها فيما بعد.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد وعد نظيره السوري أحمد الشرع خلال زيارة الأخير إلى باريس، الأسبوع الفائت، برفع العقوبات الأوروبية تدريجياً “إذا استمر على نهجه” الحالي في تحقيق الأمن والاستقرار بالمنطقة، كما وعد “بالضغط على الشركائنا الأمريكيين ليتبعوا نهجا مماثلاً”، وأضاف أنه سيحثّ الاتحاد الأوروبي على إنهاء العقوبات المفروضة على سوريا عندما يحين موعد تجديدها في يونيو/ حزيران المقبل.
ويقول قضيماتي إن العقوبات الأمريكية كانت مفروضة من قبل كثير من المؤسسات العالمية، ومن قبل الدول والشركات العابرة للدول، وهذا يحتاج الكثير من الوقت لإعادة تفعيل العلاقات وربط سوريا ضمن المنظومة العالمية حتى يحس المواطن السوري بالنمو الاقتصادي.
واضاف أننا في حاجة لفترة من الاستقرار الذي من شأنه أن يشجع المستثمرين على الاستثمار في سوريا، بمن فيهم رجال الأعمال والشركات الأوروبية بشكل عام، والأمريكية أيضا، حيث سيشعر المستثمرون بأنه لا خوف على أعمالهم في سوريا.
وتوجه قضيماتي بالدعوة إلى جميع الشركات التي تعود للسوريين في الخارج للعودة إلى البلد والعمل من داخلها بالتوازي مع أعمالهم الحالية بالمهجر، “مع العلم أن هذه الشركات تحتاج للبنى التحتية، ولكن على الكل أن يفكر بشكل جدي بالانتقال لسوريا، أو أن يكون للشركات الكبيرة مكتب تمثيل أو حتى بداية لمشروع في البلاد”.
وما تزال آلية رفع العقوبات عن سوريا غير واضحة، ويؤكد خبراء ضرورة صدور قرار من وزارة الخزانة الأمريكية لتوضيح نطاق تعليق العقوبات وتفاصيله، وتبيان ما إذا كان سيقتصر على قطاعات محددة وعلى عمل المنظمات الإنسانية، أم سيتضمن رفع القيود عن التحويلات المالية والسويفت بما يُمّكن البنك المركزي من التعامل مع المصارف العالمية.
ويرجح مركز جسور للدراسات أن الاقتصاد السوري سينهض بقوة في حال رفع العقوبات الأمريكية، مع انخراط النظام المصرفي السوري في النظام الدولي، مما يتيح له فرصة التعامل مع المؤسسات الدولية، وتنشيط القطاع التجاري السوري، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وزيادة فرص تنشيط قطاعات النفط والغاز، والاتصالات، والتقنيات، مما يزيد من فرص التطور التقني في البلاد التي دمرتها الحرب.
ويرى فاروق بلال أن الأغلبية اليوم في الإدارة الأمريكية تدرك أهمية استقرار ونهضة سوريا، و"قد لمسنا هذا الشيء من خلال اجتماعاتنا ولقاءاتنا مع الكونغرس والبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي وأيضا الخارجية".
وأشار إلى أن القرار كان من المتوقع صدوره في وقت سابق، لكن اختلاف الأولويات عند الإدارة الأمريكية أدى لتأخيره جراء حرب أوكرانيا والحرب الاقتصادية التي دخل فيها ترامب، و"لكنه الآن راغب بالوصول إلى السلام في المنطقة ويدرك أن استقرار سوريا أمر ضروري لإحلال هذا السلام".
واعتبر بلال أن هذا القرار “جيد جدا” مضيفا أن “التصريحات المتوقعة جيدة ويبنى عليها إن شاء الله”، لكن تأثير رفع العقوبات أو تخفيفها سيحتاج وقتا.
ومضى بالقول إن تفكيك تلك العقوبات يحتاج لسنوات، “فبعضها مثل قانون قيصر مرتبط بالقانون الأمريكي ويتطلب إلغاؤه العمل مع الكونغرس وما إلى ذلك، ولكن تخفيف هذه العقوبات طبعا سيُسهم في أمرين أولهما الوضع الإنساني في سوريا، وهو سيء جدا، وثانيهما الوضع الاقتصادي وهو أيضا سيء”.
ولفت إلى أن الترخيص الذي منحته الخارجية الأمريكية للمنظمات لتجاوز العقوبات لستة أشهر فقط خلال العام الماضي، لم يكن كافيا لكي تأتي إلى سوريا وتعمل لمساندة الشعب السوري وهو ما يؤثر سلبا على بناء الدولة، وقد كان واضحا جدا تأثير العقوبات لأن الدولة كانت عاجزة عن دفع رواتب موظفيها، ولذلك “رأينا تسريحات كبيرة للموظفين، كما كان هناك تأثير على الأمن لعجز الدولة عن دفع رواتب رجال الأمن واستقطاب المزيد منهم”.
ووصف رئيس المجلس السوري الأمريكي، “رفع العقوبات مستقبلا مع تخفيفها الآن إلى حين أن نستطيع إزالتها بشكل كامل” بأنه “أهم خطوة بعد سقوط نظام الأسد”.
يذكر أن القرار الأمريكي سيمهد الطريق أمام الدعم السعودي والقطري للحكومة السورية، حيث يحاول البلدان مساعدة دمشق في تأمين الرواتب والمشتقات النفطية والكهرباء، مع احتمالية توسيع الدعم والمشاركة في إعادة الإعمار.