علي البكيع – دير الزور
على الشريط الحدودي بين سوريا والعراق، تقع قرية الهري بريف مدينة البوكمال شرقي دير الزور، حيث تحمل في طياتها حكايات أليمة وسنوات عجاف من الانتظار القاتل. فمنذ أواخر عام 2017، عندما دخلت فصائل من “الحشد الشعبي” العراقي الموالية لإيران، إلى القرية عقب دحر تنظيم “داعش”، تغيرت حياة المئات من سكانها إلى كابوس لا ينتهي. رجال وشباب، قُدّر عددهم بنحو 180 شخصًا، اختفوا في ظروف غامضة، تاركين خلفهم عائلات مكلومة تتشبث بخيط رفيع من الأمل لمعرفة مصير أحبائهم. وتعتبر منطقة البوكمال، شرق دير الزور، واحدة من المدن السورية التي كانت شاهدة على كثير من تلك القصص، بل إن ملاصقتها للحدود العراقية جعل منها مركزاً إيرانياً عراقياً سورياً للتنسيق العملياتي الأمني بين “الحرس الثوري الإيراني” وفصائل “الحشد الشعبي” ونظام الأسد.
ومع انهيار نظام الأسد، فُتحت أبواب السجون والمعتقلات المحصنة لعقود طويلة، وفُتحت معها ملفات المعتقلين والمغيّبين الذين اختطفتهم أجهزة النظام الأمنية، والفصائل العابرة للحدود المساندة له. نورث برس تستعرض في هذا التقرير روايات لناجين وذوي مفقودين يتهمون فصائل الحشد الشعبي العراقي باختطاف أبنائهم أثناء سيطرتها على منطقة البوكمال بريف دير الزور.
اعتقالات بالجملة وتعذيب
يروي علاوي خميس الحرفوش، وهو أحد الناجين من قرية الهري، لنورث برس تفاصيل اعتقاله المروع على يد الحشد العراقي، قائلاً: “تم اعتقالي مع نحو 200 شخص آخر. تعرضنا لتعذيب لا يوصف، كانوا يجبروننا على الاعتراف بأننا ننتمي لتنظيم داعش، والخيار الآخر كان الموت بشكل علني، رأيت خمسة أشخاص يفارقون الحياة تحت التعذيب الوحشي”.
ويضيف “الحرفوش”: “اقتادوني إلى التحقيق، حيث استمر التعذيب حتى اعترفت زورًا بأنني انتمي لتنظيم داعش، كنا نحو 200 معتقل، مات منهم خمسة تحت التعذيب، فيما تم الإفراج عن 25 شخصًا، وأنا كنت من بينهم”.
ويستذكر “الحرفوش” لحظة اعتقاله، قائلاً: “اقتحموا منازلنا وأخذونا إلى منطقة اسمها الحميضة، إلى سجن. مع بدء التحقيق، كانوا يقولون لنا أنتم دواعش، عليكم أن تعترفوا إنكم دواعش أو تموتوا”.
ويقول: “أتذكر بشكل خاص وفاة رجل مسن اسمه عبيد الغربي، كان يبلغ من العمر 50 عامًا، لفظ أنفاسه تحت التعذيب، وشاب آخر من قرية الوسيعة اسمه عمار وحيد لهلو. أما الثلاثة الباقين فلا أعرفهم، لكنهم جميعًا ماتوا تحت التعذيب الوحشي”.
ويشير إلى أن أغلب المعتقلين كانوا من الشامية جنوب الفرات، مضيفاً: “استمر اعتقالي 16 يومًا، ومصير الـ 170 شخصًا الآخرين ما زال مجهولًا حتى اليوم”.
ترهيب سكان القرية
يُقدم سعد الخلاوي، وهو من قرية الهري أيضًا، رواية أخرى لنورث برس، عن دخول القوات العراقية: “تقع قريتنا على الحدود العراقية السورية. أثناء عمليات تحرير المنطقة من تنظيم داعش، دخلت قوات رديفة من الجانب العراقي، كانت موكلة بتحرير البوكمال، وهي قوات عراقية متمثلة بقوات حزب الله والحشد الشعبي”.
ويضيف: “استخدموا أقصى درجات القوة والترهيب ضد السكان، بمن فيهم النساء والشيوخ الكبار في السن، علمًا أنه لم تكن هناك أي قوات مسلحة أو مقاومة لهم. دخلوا المنطقة بدون أي مقاومة، لكنهم استخدموا أسلوب الترهيب عبر الضرب وإطلاق العيارات النارية من أسلحة خفيفة ومتوسطة”.
ويتابع “الخلاوي”: “من ثم قاموا بتجميع أهالي القرية في أحد أحياء القرية الواقع على الحدود العراقية السورية. بعد يومين، جمعوا الناس وبدأوا بأخذ الشباب الذين تتراوح أعمارهم من 18 عامًا إلى 40 عامًا بشكل انتقائي. جمعوا ما يقارب 200 شخص”.
ويشير إلى أنه بعد مرور أسبوعين، تم إطلاق سراح 20 شخصًا، بينما بقي 180 شخصًا مفقودين منذ ذلك الحين ولم ترد أي معلومة عنهم.
17 شخصاً من عائلة واحدة
يشير رابخ حسين الحاج من قرية الهري إلى أسلوب الخداع الذي استخدمه الحشد في الاعتقالات، قائلاً: “قام الحشد العراقي بجمع سكان القرية في مخيم لمدة يومين، بدأوا بمناداة السكان من أجل توزيع وجبة طعام، عندما اجتمع السكان، بدأوا بالاعتقال من فئة الشباب”.
ويضيف أنه: “تم اعتقال ما يقارب 200 شخص، وأفرجوا عن نحو 30 شخصًا، بينما المفقودين، منهم اثنين من أولادي وأولاد إخواني عددهم 17 شخصًا من عائلة واحدة نفقدهم إلى هذا اليوم”.
ويشير إلى أنه وقعت إصابات عديدة بين أبناء القرية، منهم من كسرت ذراعه ومنهم من تعرض لإصابات بليغة نتيجة أساليب الوحشية في التعذيب.
ويقول “الحاج”: “لو كنا ننتمي لتنظيم داعش لكنا هربنا، ولكن نحن مدنيون خرجنا من القرية باتجاه نهر الفرات لتجنب قصف الطائرات، ومن ثم أخذونا إلى قرية الحميضة، وبدأوا بانتقاء الشباب بتهمة الانتماء لتنظيم داعش”.
مطالبات بكشف مصير المختطفين
يطالب محمد الحرفوش، وهو من القرية ذاتها، الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وحكومته بمطالبة العراق بالكشف عن مصير المفقودين من عائلته وأبناء قريته.
ويقول: إنه “عند دخول الحشد العراقي، كان من بينهم هنالك عناصر إيرانية أيضًا أخذوا أولادنا وضربوا ونهبوا وسلبوا السيارات”.
ويضيف: “طالبنا بهم من قبل الحكومة السورية السابقة، ولكن دون جدوى، أولادي وأبناء أخي 6 أشخاص في عداد المفقودين وهم: حسين إبراهيم العلي، محسن إبراهيم العلي، حمد إبراهيم العلي، إبراهيم العلي الحرفوش، عبدالله محمد الإبراهيم وعبيد محمد الإبراهيم”.
ويتابع: “إلى اليوم مصيرهم مجهول، قمنا بسؤال الإيرانيين، فقالوا إنهم لا يعلمون شيئًا عنهم. الحشد لا أحد يقدر على الوصول إليهم، وكلما حاولنا الذهاب يمنعوننا ويقولون ممنوع، لا يوجد أحد”.
فيما يشير إلى أن هنالك أخبار تقول إن المفقودين موجودون في سجن جرف الصخر في العراق، على حد قوله.
وتحمل هذه الشهادات الصادمة اتهامات واضحة لفصائل من “الحشد الشعبي” العراقي بارتكاب جرائم تعذيب وقتل واختفاء قسري بحق مدنيين سوريين من قرية الهري بريف دير الزور الشرقي، شرقي سوريا.
ويبقى مصير نحو 180 شخصًا من أهالي قرية الهري معلقًا منذ عام 2017، وسط صمت مطبق وتجاهل لمطالب عائلاتهم المكلومة، بينما تستمر المناشدات للحكومة والمنظمات الدولية والإنسانية بالتحرك العاجل للكشف عن مصير ذويهم المفقودين، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.