الأحد, 4 مايو 2025 01:39 PM

إسرائيل تستغل انهيار سوريا: السيطرة على المياه كسلاح استراتيجي

إسرائيل تستغل انهيار سوريا: السيطرة على المياه كسلاح استراتيجي

جورج كرزم

أدى انهيار نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر 2024 إلى تحولات جيوسياسية كبيرة في منطقة بلاد الشام، حيث يمثل الاستيلاء الإسرائيلي اللاحق على الموارد في جنوب سوريا أحد أكثر التطورات أهمية في المنطقة. يتناول هذا المقال التحليلي المناورات الهيدروسياسية الاستراتيجية الإسرائيلية بعد إزاحة الأسد، مع وضعها في السياق الأوسع لسياسات أمن المياه في المنطقة العربية؛ علما أن استيلاء إسرائيل على البنية التحتية والموارد المائية الحرجة في سوريا يتجاوز الأهداف الأمنية المباشرة، ويعكس استراتيجية شاملة تستخدم المياه كآلية لبسط النفوذ الإسرائيلي وتوطيد الهيمنة على عموم المنطقة العربية.

السياق التاريخي لسياسات المياه في بلاد الشام

شكلت ندرة المياه تاريخياً أحد التحديات الاستراتيجية الأكثر خطورة في المنطقة العربية؛ إذ أن النمو السكاني والتنمية الاقتصادية كثفت المنافسة على الموارد الهيدرولوجية المحدودة. في هذا السياق، برزت المياه ليس فقط كمصدر قلق بيئي أو تنموي، بل كأصل أمني وطني حاسم يشكل ديناميات القوة الإقليمية والعلاقات بين الدول. وقد دأبت إسرائيل تحديدا على إرساء العديد من المشاريع الكولونيالية لنهب المياه العربية، إلى جانب إدارتها لموارد المياه العربية المنهوبة من الجغرافيا الفلسطينية والأردنية واللبنانية والسورية على وجه الخصوص، من خلال مزيج من العمليات العسكرية و”المبادرات” الدبلوماسية والابتكار التكنولوجي.

وكما نعلم، يمثل حوض نهر الأردن أهم مورد مائي في بلاد الشام، حيث تقع منابعه في شمال فلسطين ومرتفعات الجولان المحتلة وجنوب لبنان، وتغذي بحيرة طبريا. وتأتي روافد إضافية من المياه السورية والأردنية، وأبرزها نهر اليرموك، إلى جانب الينابيع الفلسطينية، وبخاصة في الضفة الغربية، لتغذية المنطقة السفلية الجنوبية من نهر الأردن.

؛ علما أن المياه السطحية تمثل 30% فقط من الموارد المتاحة لإسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية، في حين تشكل طبقات المياه الجوفية نحو 70% من إجمالي إمدادات المياه. ومن خلال الاحتلال العسكري لمرتفعات الجولان والضفة الغربية عام 1967، أَمَّنت إسرائيل السيطرة على منابع نهر الأردن وطبقات المياه الجوفية في الضفة الغربية المتدفقة غرباً، رغم أنها تمثل  بحدودها ما قبل عام 1967.

يتميز المشهد الهيدرولوجي في سوريا بموارد مائية وطبيعية كبيرة، حيث يضم : الفرات وحلب، ودجلة والخابور، والبادية والعاصي، والحوض الساحلي، وبردى، وحوض عوج، وحوض اليرموك. وتعبر البلاد ستة عشر نهراً وروافدها، خمسة منها مشتركة دولياً: الفرات، ودجلة، والعاصي، واليرموك، والجنوب الكبير، ويكملها تسع بحيرات.  تشكل حوالي 75% من موارد المياه المنظمة في سوريا، مع تصنيف أكثر من 45% من موارد المياه في البلاد على أنها قابلة للاستخدام. تقدر  بين 16.4 و18.2 مليار متر مكعب سنوياً، مع معدل إمدادات المياه السطحية حوالي عشرة مليارات متر مكعب وموارد المياه الجوفية المتجددة حوالي ستة مليارات متر مكعب.

ورغم هذه الوفرة الظاهرة، عانت سوريا من ضغوط مائية كبيرة بسبب تدهور البنية التحتية الناتج عن الصراع العسكري الطويل، فضلا عن ظروف الجفاف التي استنزفت موارد المياه وقوضت الإنتاجية الزراعية. هذه الهشاشة في أمن المياه بسوريا أوجدت فرصاً للجهات الفاعلة الخارجية للاستيلاء على الموارد الهيدرولوجية، وبالتالي الحصول على ميزة استراتيجية في مشهد ما بعد الأسد.

الغزو الإسرائيلي لجنوب سوريا

في أعقاب انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024 مباشرة، بدأت إسرائيل عمليات عسكرية منسقة لتأمين مواقع استراتيجية رئيسية في جنوب سوريا. كان الاستيلاء على قمة جبل الشيخ عملاً مهماً بشكل خاص، ما منح إسرائيل قدرات مراقبة بصرية مباشرة تمتد إلى دمشق. شكلت هذه العملية جزءاً من استراتيجية أوسع لإنشاء منطقة عازلة موسعة مصممة ظاهرياً لاستباق التهديدات الأمنية المحتملة من الجهات الفاعلة غير الحكومية العاملة في المنطقة.

ومواصلة لتعزيز هيمنتها الإقليمية، وَسَّعَت إسرائيل سيطرتها داخل المنطقة العازلة لقوة مراقبي فض الاشتباك التابعة للأمم المتحدة (UNDOF)، ما أدى فعلياً إلى تغيير ترتيبات وقف إطلاق النار القائمة منذ فترة طويلة بعد حرب أكتوبر 1973. شمل هذا التوسع احتلال قرى سورية مثل جملة ومعربة، مع تقارير مصاحبة تشير إلى أن الجيش الإسرائيلي  من هذه المناطق؛ ما يشير إلى أن التوسع الإقليمي من خلال توسيع المستوطنات في الجولان لتعزيز المطالبات بالسيطرة على الأراضي وتغيير التركيبة الديموغرافية، يعد من أهم أهداف الغزو الإسرائيلي لجنوب سوريا. أعادت هذه الإجراءات تشكيل ديناميات السيطرة الإقليمية في جنوب سوريا بشكل كبير، مع دفع المزيد من تشكيلات الجيش الإسرائيلي إلى مناطق جنوب دمشق.

ووفقاً  الصادرة عن مشروع Criticals التابع للمعهد الأميركي، بالتعاون مع معهد دراسة الحرب، تكثف الوجود العسكري الإسرائيلي في مناطق محددة في جنوب سوريا. رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو أعلن بأن العمليات العسكرية الإسرائيلية تهدف إلى “نزع السلاح”، والتي شملت  على مواقع مختلفة في ريف دمشق ومحافظة درعا. هذا التواجد العسكري الإسرائيلي الموسع أثار مخاوف بشأن نوايا احتلال طويل الأمد، يذكرنا بالاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي السورية منذ حرب حزيران عام 1967.

الأبعاد الهيدروسياسية

تتجاوز استراتيجية إسرائيل بعد الأسد السيطرة الإقليمية لتشمل نهب الموارد المائية في جنوب سوريا. وقد برز ذلك في استيلائها على ، وهي البنية التحتية الحاسمة لإمداد المياه العذبة لكل من سوريا والأردن. فمن خلال السيطرة على هذا السد، اكتسبت إسرائيل نفوذاً كبيراً على مورد أساسي للزراعة والاستهلاك المنزلي في المنطقة. وبالمثل، أمَّن الجيش الإسرائيلي السيطرة على ، وهي منشأة حيوية لتوفير المياه لمناطق واسعة في جنوب سوريا.

ووفقاً لمصادر متعددة، استولت إسرائيل على أكثر من  منذ سقوط الأسد. هذه العمليات تعكس نهجاً استراتيجياً يتجاوز الأهداف العسكرية المباشرة، بهدف إنشاء استدامة مائية إسرائيلية طويلة الأمد وسط تزايد ندرة الموارد.

تعتبر آثار هذه العمليات الهيدروسياسية كبيرة ومتعددة الأوجه. فسيطرة إسرائيل على البنية التحتية المائية الحيوية تهدد الأمن المائي السوري في القنيطرة ودرعا، ما يفاقم التحديات الإنسانية في منطقة تعاني أصلا من عدم الاستقرار بسبب الصراع المطول. نمط الاستيلاء الإسرائيلي على موارد المياه يوضح كيف أصبحت الأصول الهيدرولوجية العربية أدوات جيوسياسية محورية لإسرائيل، متجاوزة الاعتبارات العسكرية التقليدية لصالح نهج أكثر شمولاً للهيمنة الإقليمية.

تحليل جيوسياسي

يعكس النهج الاستراتيجي الإسرائيلي تجاه موارد المياه في سوريا فهماً متطوراً للمياه كأصل متعدد الأبعاد له آثار على الأمن والدبلوماسية والنفوذ الإقليمي. تتجاوز التحركات الإسرائيلية بشأن السيطرة على المياه الاعتبارات السياسية البحتة، وصولا إلى حسابات الأمن الوجودي، بل حتى المنظورات الدينية. فمنذ إنشاء إسرائيل، دعا العديد من القادة الإسرائيليين إلى ضم المناطق العربية الغنية بالمياه، مدركين الأهمية الأساسية للموارد الهيدرولوجية للبقاء والأمن والتنمية.

يوضح التحرك الحالي للاستيلاء على موارد المياه في سوريا كيف عملت إسرائيل على تفعيل هذا النهج المفاهيمي، مستفيدة من السيطرة على البنية التحتية المائية الحرجة لتعزيز نفوذها الإقليمي، وإضعاف الدول العربية المجاورة التي تعتمد على هذه الموارد لأمنها المائي وإنتاجيتها الزراعية. هذه الاستراتيجية تستخدم المياه كآلية لإظهار القوة، تتجاوز الأدوات العسكرية أو الدبلوماسية التقليدية، وتؤسس لتبعيات عربية للموارد “المُأَسرلة”، قد تستمر لفترة طويلة، بصرف النظر عن الترتيبات السياسية الرسمية.

المياه في إطار ديناميات القوة الإقليمية

يمثل الاستيلاء على مصادر المياه السورية استمراراً لنهج إسرائيل التاريخي في نهب المياه العربية. فمن خلال سحبها نحو100 مليون متر مكعب سنوياً من مياه نهر الأردن، وسيطرتها على طبقات المياه الجوفية في الضفة الغربية، ثبتت إسرائيل هيمنتها على الموارد الهيدرولوجية إلى ما وراء حدودها المعترف بها دوليا. العمليات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا تعد توسعة للنهج النهبوي، ما يخلق تبعيات وأوجه ضعف عربية جديدة قد تستمر، بغض النظر عن التسويات السياسية المستقبلية.

التوجه الهيدرولوجي الاستراتيجي التوسعي، أكملته إسرائيل بابتكارات تكنولوجية في إدارة المياه، بما في ذلك تحلية المياه ومعالجة المياه العادمة وتقنيات الري المتقدمة. إلا أن التركيز المستمر على نهب مزيد من مصادر المياه العربية الخارجية، يشير إلى أن الحلول التكنولوجية وحدها لا تلبي متطلبات الأمن المائي الإسرائيلي الاستراتيجي؛ بمعنى أن إسرائيل تتصور أن أمنها المائي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالهيمنة الإقليمية، ما يجسد عقيدة هيدروسياسية تعطي الأولوية للاستيلاء المباشر على مزيد من الموارد المائية كلما أُتيحت لها الفرصة.

التداعيات المستقبلية

إن إعادة تشكيل السيطرة على موارد المياه في سوريا ما بعد الأسد، لها تداعيات عميقة على الاستقرار والأمن الإقليميين على المدى الطويل. فمن خلال تثبيت هيمنتها على البنية التحتية المائية الحرجة، خلقت إسرائيل ظروفاً جيوسياسية تؤبد علاقات التبعية، بصرف النظر عن الترتيبات السياسية الرسمية؛ ما يثير تساؤلات وجيهة حول جدوى “مبادرات السلام” المستقبلية، خاصة مع تفاقم ندرة المياه بسبب تغير المناخ والنمو السكاني.

الوقائع الهيدروسياسية الجديدة في جنوب سوريا تبرز الأبعاد الإنسانية المخيفة؛ فحاليا يواجه السوريون هناك انعدام الأمن المائي، بسبب السيطرة الإسرائيلية على مصادر المياه المحلية، ما قد يسرع النزوح البشري ويفاقم التحديات الإنسانية القائمة. وبالمثل، قد تواجه الدول العربية المجاورة، وبخاصة الأردن الذي يعتمد على موارد المياه المتحكم بها إسرائيليا مثل نهر اليرموك، خنقا مائيا متعاظما؛ قد يولد توترات وتحديات أمنية متتالية في جميع أنحاء المنطقة.

علاوة على ذلك، ممارسات إسرائيل النهبوية تكرس سوابق بشأن استيلاء دول أخرى على الموارد في سياقات مماثلة. فمن خلال إبراز “الفوائد الاستراتيجية” للاستيلاء على موارد المياه، تتم شرعنة الممارسات المشابهة التي تتعارض مع الأطر القانونية الدولية التي تحكم إدارة الموارد في المستويات المحلية والإقليمية والعالمية.

خلاصة

تعكس المناورات الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا ما بعد الأسد تفاعلاً معقداً بين الاستحواذ الإقليمي، والاستيلاء على الموارد، والاعتبارات الأمنية. يمثل الاستيلاء على البنية التحتية المائية الحرجة بُعداً أمنيا مهماً للمشروع الإسرائيلي التوسعي، موضحاً كيف أصبحت الموارد الهيدرولوجية محورية لديناميات القوة الإقليمية. من خلال تأمين سيطرتها على السدود والأنهار وطبقات المياه الجوفية، عززت إسرائيل أمنها المائي مع إنشاء آليات للنفوذ الإقليمي تتجاوز الأدوات العسكرية أو الدبلوماسية التقليدية.

لهذه التطورات المتمثلة بالاستيلاء على موارد المياه العربية بقوة الاحتلال العسكري، آثار كبيرة على الاستقرار والأمن الإقليميين، والقانون الدولي، والظروف الإنسانية في المناطق المتضررة؛ حيث أنها تكرس ظواهر “البلطجة” والفوضى وقوانين الغاب، وتخلق نزوحا سكانيا مدنيا، وتغير الترتيبات الإقليمية القائمة منذ فترة طويلة، وفي المحصلة، تعمق الجوهر التناحري للصراع مع المشروع الإسرائيلي الذي لا يرى في المحيط العربي سوى “أتباع”.

خاص بآفاق البيئة والتنمية

        اخبار سورية الوطن 2_وكالات _راي اليوم
مشاركة المقال: