تتصاعد الضغوط الدولية والإقليمية على بغداد في ظل المرحلة الحاسمة من محادثات تشكيل الحكومة العراقية، وسط تنافس حاد بين واشنطن وطهران لفرض رؤيتهما على السلطة التنفيذية المقبلة. في هذا السياق، تكثف واشنطن تحركاتها الدبلوماسية داخل العاصمة العراقية، وتؤكد إدارة الرئيس دونالد ترامب أن العراق يواجه اختباراً حقيقياً في حماية استقلالية قراره السياسي، وأن أي تدخل خارجي سيواجه برد أمريكي حازم.
تتزامن هذه الرسائل مع نشاط مكثف لمبعوثي الإدارة الأميركية وتصريحات قوية تستهدف النفوذ الإيراني المتزايد، في لحظة سياسية حساسة تسعى فيها القوى العراقية لإيجاد صيغة تنهي حالة الانسداد السياسي وتراعي موازين القوى الداخلية والخارجية.
يؤكد غابرييل صوما، مستشار الرئيس الأميركي، أن الإدارة الأميركية تنظر إلى العملية السياسية في بغداد كاختبار حقيقي لاستقلالية القرار الوطني العراقي، وأنها لن تسمح بأي تدخل خارجي يعرقل إرادة العراقيين أو يفرض خيارات لا تعبر عن توجهاتهم. ويضيف صوما أن موقف الإدارة واضح وصريح، وهو رفض أي محاولة للتأثير على نتائج المشاورات بين القوى السياسية العراقية، في إشارة مباشرة إلى التدخلات الإيرانية المتزايدة. وأشار إلى أن الرئيس ترامب نقل موقفاً حازماً بهذا الشأن عبر مبعوثه الخاص إلى العراق مارك سافايا، الذي أكد بدوره أن الولايات المتحدة ستدعم فقط حكومة مبنية على أسس السيادة والشراكة الوطنية بعيداً عن الضغوط الإقليمية. ويلفت إلى أن الاستقلال السياسي للعراق شرط أساسي لاستمرار الاستقرار الأمني والتقدم الاقتصادي الذي تحقق بدعم من التحالف الدولي، مؤكداً أن واشنطن أبلغت الأطراف العراقية أن أي تدخل خارجي في تشكيل الحكومة سيُقابل بـ"موقف أميركي صارم وواضح".
وكان سافايا قد أعلن أنه سيصل إلى العراق خلال الأسبوعين المقبلين، مؤكداً أن "تغييرات كبيرة مقبلة في العراق، ومن الآن فصاعداً سيرى الجميع أفعالاً بدلاً من الأقوال". ونقلت تقارير صحافية عن مصادر داخل الإطار التنسيقي، تأكيداً بوجود قرار شيعي "شبه موحّد" يقضي بإبعاد ممثلي الفصائل المسلحة عن الوزارات السيادية والحقائب الحساسة، مثل وزارات النفط والمالية وهيئة الاستثمار والملفات الاقتصادية التي ترتبط بشكل مباشر بالولايات المتحدة.
من جهته، أكد مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية الدكتور غازي فيصل أن العراق يقف اليوم أمام "منعطف حاسم" في ظل تزايد الضغوط الأميركية والإقليمية لإعادة ضبط مسار الدولة وبناء حكومة جديدة تعكس توازناً إقليمياً ودولياً جديداً. وأشار إلى أن واشنطن "لن تسمح بسقوط العراق في قبضة النفوذ الإيراني"، خصوصاً بعد الهزائم التي مُنيت بها طهران وحلفاؤها في لبنان وسوريا واليمن، وأن الولايات المتحدة باتت تعتمد مقاربة أكثر حزماً، قوامها الضغط الديبلوماسي والاقتصادي، لردع محاولات إشراك ممثلي الفصائل المسلحة في الحكومة المقبلة، ولا سيما أولئك الذين صدرت بحقهم تصنيفات دولية. وأضاف أن الزيارات الأميركية الأخيرة إلى بغداد، سواء زيارة توم براك أو مارك سافايا أو مايكل ريغاس، تشكل "إنذاراً واضحاً" بأن المرحلة المقبلة يجب أن تكون خالية من الفصائل المسلحة، وأن القرار السيادي العراقي يجب أن يكون موحداً، مع حكومة صديقة لواشنطن، ومنفتحة على الاستثمار والشراكة الاقتصادية. وحذّر فيصل من استمرار "ازدواجية القرار" بين الدولة والفصائل، لأن ذلك يجعل أي حكومة مقبلة "عاجزة عن استعادة هيبة الدولة أو فرض سيادة القانون، وهذا ما يحصل في لبنان".
وفي ما يتعلق بالتصعيد الإقليمي، لفت فيصل إلى أن التوتر في الجنوب اللبناني واحتمالات المواجهة مع "حزب الله" يجعل واشنطن أكثر حساسية تجاه أي دور للفصائل العراقية، خصوصاً في تمرير السلاح عبر العراق وسوريا. وختم قائلاً إن "العراق أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا دولة قانون ومؤسسات ذات قرار سيادي موحد… وإمّا دولة تتقاسمها الفصائل وتبقى رهينة الصراعات الإقليمية". وبحسب الخبير الأمني سرمد البياتي، فإن الفصائل المسلحة تمتلك قرابة 100 نائب في البرلمان الجديد، الأمر الذي يضع أمام القوى الساعية لحصر السلاح بيد الدولة تحديات كبيرة.
وقبل ساعات من الاجتماع الأخير للإطار التنسيقي الذي عقد في منزل نوري المالكي بشأن تسمية رئيس الوزراء الجديد، سجلت بغداد نشاطاً ديبلوماسياً أميركياً غير مسبوق، خلال أقل من 24 ساعة، ما فتح الباب واسعاً أمام تساؤلات تتعلق بالتوقيت ودلالاته، وتأثيره المحتمل على مسار تشكيل الحكومة. البداية كانت بوصول مبعوث الرئيس الأميركي الخاص إلى سوريا ولبنان توم براك إلى بغداد، حيث التقى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وبحث معه ضرورة دعم استقرار سوريا، ومنع التصعيد الإقليمي، وتعزيز المسار الديبلوماسي لحل النزاعات، مع تأكيد براك على "الدور البنّاء" الذي يمكن للعراق أن يؤديه في المنطقة. وبعد وصول براك بساعات، هبط نائب وزير الخارجية الأميركي مايكل ريغاس في بغداد، في زيارة قالت عنها السفارة الأميركية إنها تهدف إلى دعم "السيادة والازدهار" وتعزيز العلاقات مع القادة العراقيين. ومهدت واشنطن لحراكها الديبلوماسي برسائل شدد محتواها على ضرورة ضبط السلاح الخارج عن إطار الدولة، وتعزيز استقلال المؤسسات، فضلاً عن اختيار رئيس وزراء قادر على تنفيذ هذه الأولويات. وكشفت مصادر مطلعة على كواليس الاجتماع الأخير، أن زعماء الأحزاب الشيعية اتفقوا على ضرورة التعاطي مع المتغيرات الدولية في ملف تشكيل الحكومة، وضبط مواقف القوى إعلامياً تجاه مبعوث الرئيس الأميركي إلى العراق مارك سافايا.