جاء قرار مجلس الأمن رقم “2799” الصادر في 6 تشرين الثاني الحالي، والذي قضى بشطب اسمي أحمد الشرع وأنس خطاب من قائمة الجزاءات المفروضة على تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، ليجسد استكمالًا وتطويرًا أمريكيًا وبريطانيًا وأوروبيًا لأفكار طرحتها مراكز أبحاث. تركز هذه الأفكار على كيفية التعامل مع الجماعات المسلحة والسياسية، سواء صنفت كـ"معتدلة" أو متشددة أو متطرفة، واحتوائها وتوظيف قدراتها لإدارة الصراعات وضبطها بما يخدم مصالح الأمن القومي وسياسات تلك الدول.
ركزت بعض التقارير على مفهوم "الانخراط المدروس" والحوار مع الجماعات المسلحة والسياسية بهدف خفض التصعيد وإنهاء التمرد، انطلاقًا من قناعة بأن المواجهة العسكرية مع هذه الجماعات نادرًا ما تحقق حلولًا نهائية.
يُعد تقرير صادر عن مؤسسة “راند” في عام 2008، بعنوان: “كيف تنتهي الجماعات الإرهابية: دروس لمواجهة تنظيم القاعدة”، مرجعًا هامًا لدى الدوائر الحكومية والبحثية في دول الشمال العالمي. حلل التقرير 268 جماعة بين عامي 1968 و2006، وأظهر أن 43% من هذه الجماعات انتهت بالسعي لتحقيق أهدافها عبر الوسائل السياسية، بينما انتهت 40% منها من خلال عمليات استخباراتية مركزة، و7% بحسم عسكري. وأقل من 10% فقط انتصرت وحققت أهدافها بالكامل. وأشار التقرير إلى أن فشل المقاربة العسكرية في هزيمة الجماعات المسلحة يعود إلى عدم استعداد الجيوش لمواجهة حركات سرية صغيرة لامركزية، وأن الضربات العسكرية قد تكون مفيدة كتكتيك، إلا أنها على المدى البعيد تفشل في تغيير سلوك الجماعات، إضافة إلى أن الجماعات لا ينتظمون كقوات عسكرية تقليدية ويتوارون عن الأنظار ولا يحتفظون بأرض.
تحقيق أهداف الجماعات المسلحة وانتصارها عسكريًا لا يعني بالضرورة إقامة نظام تعددي ديمقراطي. ففي إريتريا، وبعد أن ضُمت قسرًا إلى إثيوبيا في عام 1952، تمكنت الجبهة الشعبية الإريترية في 14 أيار 1991 من السيطرة على معظم الأراضي ودخلت العاصمة أسمرة. وكان أسايس أفورقي قد عُين أمينًا عامًا للجبهة في عام 1987، وترأس الحكومة المؤقتة التي خططت لاستفتاء على استقلال إريتريا، والذي أُجري في 24 أيار 1993. ثم انتُخب أفورقي رئيسًا للجمعية الوطنية في 1994، وفي اليوم نفسه انتخبته الجمعية رئيسًا للبلاد، وتحولت الجبهة إلى حزب سياسي تحت اسم “الجبهة الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة” وبقي أفورقي أمينًا عامًا له، ومهد ذلك إلى تعزيز سيطرته على السلطتين التشريعية والتنفيذية، بالإضافة إلى قيادة الجيش، وتعيين قضاة المحكمة العليا. وبقي حزبه، الحزب الوحيد في البلاد، وفي عام 1993 ألغى الانتخابات الرئاسية، وأغلق الصحف في عام 2001، ومنذ عام 1997 حتى الآن، لم يدخل الدستور الذي صدّقت عليه الجمعية التأسيسية حيز التنفيذ، وما زال أفورقي رئيسًا منذ الاستقلال.
وفي سياق تحويل جماعة مسلحة إلى شريك سياسي، تعتبر مفاوضات السلام بين الحكومة الفلبينية والجبهة الوطنية لتحرير مورو (MNLF) برعاية إندونيسيا ومنظمة التعاون الإسلامي 1993–1996، نموذجًا كلاسيكيًا عن تحول جماعة من العمل العسكري إلى العمل السياسي بعد توقيع اتفاقية سلام مع الحكومة الفلبينية 1996، عرفت بـ”Final Peace Agreement”، منحوا بموجبها حكمًا ذاتيًا لمسلمي مورو في مينداناو. أما الجماعة التي انشقت عن الجبهة، والتي تدعى بـ”جبهة تحرير مورو الإسلاميةMILF- “، فواصلت القتال إلى أن دخلت في مسار سياسي (2014-2020). وتُذكر هذه التجربة أيضًا في دراسات القطاع الأمني بسبب إدماج المقاتلين (DDR).
أما عن أهم الدروس المستفادة من تلك الاتفاقية، فإن السلام الحقيقي لا يمكن اختزاله بتوقيع اتفاقية، بل يتطلب الأمر مشاركة مجتمعية، وعدالة اجتماعية، كما أن الإصلاح أو الدمج، دون إصلاحات هيكلية، سياسية واقتصادية واجتماعية تجعل الاتفاقية هشة، وقد تؤدي إلى ظهور انشقاقات عن الجماعة المسلحة، كجماعة “أبو سياف” التي انشقت عن “الجبهة الوطنية لتحرير مورو”.
بالمحصلة، فإن عددًا من المراكز البحثية تدعم الحوار مع بعض الجماعات المسلحة ذوي القاعدة الاجتماعية لأن هزيمتهم عسكريًا لا تتم دون تكاليف باهظة، وأن الحوار المشروط معهم، يسمح بتحديد مطالب سياسية، وينجم عنه إقصاء للعناصر الأكثر تشددًا، وثمة مراكز تعتقد بأن الدمج المدروس يقلل احتمالات الانشقاق وصعود جماعات أكثر راديكالية، بشرط أن يكون للجماعات طرف “تمثيلي” قادر على الالتزام.
عمليًا، ومنذ عام 2007، اقترحت وشجعت المراكز البحثية بناء “شبكات إسلامية معتدلة” وربطها مع الاستراتيجية والبرامج الأمريكية، من أجل تدفق “الأفكار المعتدلة في منطقتنا”، لمواجهة “أقلية متطرفة” والشبكات التي بنوها، حسب تعبيرهم.
وفي هذا الإطار، طورت بعض الدول قنوات غير معلنة، مثل الدور الذي قام به جوناثان باول مستشار الأمن القومي في المملكة المتحدة، وتواصل مع “هيئة تحرير الشام” منذ عام 2023، نيابة عن المملكة، كما أفادت صحيفة “التلغراف” في 21 تشرين الثاني الماضي، رغم أن الهيئة كانت محظورة وعلى قائمة الإرهاب. وحسب الصحيفة، فإن مهمة باول ومنظمته “إنتر ميدت الخيرية”، وهي منظمة متخصصة في حل النزاعات، كانت لإقناع أحمد الشرع وفريقه بالتخلي عن الصراع العنيف والتحول نحو “منظمة سياسية شرعية”، الأمر نفسه الذي صرح به سابقًا روبرت فورد السفير السابق للولايات المتحدة في سوريا خلال محاضرة نُشرت عبر قناة “مجلس بالتيمور للشؤون الخارجية”.
وبالعودة إلى قرار مجلس الأمن “2799” لعام 2025، والذي عدد مروحة التزامات سوريا، وشملت مكافحة تنظيمي “داعش” و”القاعدة” وما يرتبط بهما من جماعات وأفراد ومؤسسات وكيانات، و”اتخاذ تدابير حاسمة للتصدي للتهديد الذي يشكله المقاتلون الإرهابيون الأجانب”، إضافة إلى “حماية حقوق الإنسان لجميع السوريين وسلامتهم وأمنهم، بغض النظر عن العرق والدين، ومكافحة المخدرات، والنهوض بالعدالة الانتقالية (…) فضلًا عن إقامة عملية سياسية شاملة يقودها السوريون ويمتلكون زمامها…”.
لكن السلطة الحالية لا توائم بين المطالب الخارجية والاستحقاقات الداخلية، وتزيد من احتكارها للسلطة وتفرغ الوزارات من مهامها وتنشئ المزيد من الهيئات السيادية التابعة لرئاسة الجمهورية، وكأنها تتخذ احتياطات مسبقة، في حال اشتد الضغط عليها لإقامة عملية سياسية شاملة يقودها السوريون والسوريات، وتكون بذلك لم تتعلم دروس ما يخلفه ويصنعه الاستبداد.