لم يكن ما جرى في بيت جن حادثة أمنية معزولة، بل هو جزء من مسار متكامل تسلكه إسرائيل بخطوات محسوبة لإعادة هندسة الجنوب السوري، دون اعتبار لموقف دمشق أو واشنطن.
فمنذ زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع لواشنطن وإعلان انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، رأت إسرائيل في ذلك تهديداً لمصالحها، حيث اعتبرت أي انفتاح سوري-أميركي بمثابة احتمال لاستعادة دمشق لدورها الدبلوماسي وموقعها في ملفات الحدود والأمن والجنوب.
لذلك، سارعت إسرائيل إلى تجميد المفاوضات الأمنية مع دمشق، وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بزيارة استفزازية للجبهة السورية، سبقت التوغّل في بيت جن بساعات، في خطوة تمهيدية للمرحلة المقبلة.
خلال التوغّل، لم تهتم إسرائيل بهوية القتلى أو المشتبه بهم، وحتى ظهور صور لبعض الضحايا بزيّ أمني رسمي لم يغير من الأمر شيئاً. كان المهم بالنسبة لها هو تبرير العملية بملاحقة "عناصر في جماعة إسلامية".
هذا التوصيف فتح الباب أمام سردية واسعة تربط دمشق بمجموعات إسلامية، خاصة بعد قرار ترامب بوضع فروع من الإخوان المسلمين على قوائم الإرهاب. وكأن إسرائيل تقول: حتى لو دخلت دمشق في التحالف الدولي، فنحن قادرون على ربطها بأطراف تعتبرها واشنطن إرهابية.
ورغم نفي الجماعة الإسلامية في لبنان أي علاقة لها بما حدث، إلا أن إسرائيل استغلت الضبابية المحيطة بالموضوع لخلق ذريعة لوصف الجنوب السوري بأنه مسرح محتمل لـ"نشاط إسلامي مسلّح".
بهذه الطريقة، تضع إسرائيل دمشق أمام خيارين كلاهما خاسر: إما الرد واتهامها بالدفاع عن "جماعات إرهابية"، أو الصمت والقبول بالتوغّلات والضربات وتثبيت النفوذ الإسرائيلي.
في خلفية المشهد صراع أوسع بين تركيا وإسرائيل على سوريا، حيث يمكن توظيف الفوضى في مناطق مثل بيت جن، التي تنشط فيها مجموعات مسلّحة بعضها كان على صلة بالحرس الثوري وبعضها الآخر اقترب من مجموعات ذات هوى إسلامي.
لا توجد أجوبة قطعية، ولكن الاحتمالات كلها مفتوحة، وهذا ما تجيده إسرائيل: تحويل الاحتمال إلى ذريعة، والذريعة إلى سياسة. وبالتالي، فإن عملية بيت جن ليست مجرد "كمين فاشل"، بل حلقة في سلسلة تقول من خلالها إسرائيل إنها ليست مستعجلة لأي اتفاق مع دمشق، وإن مشروعها الميداني يعطيها أكثر مما يعطيها التفاوض.
دمشق من جهتها تدخل مرحلة أكثر حساسية، حيث أن كل تقدم ديبلوماسي نحو واشنطن سيحتاج أن يمر من حقل ألغام إسرائيلي، وكل خطوة نحو استعادة الجنوب ستكون مرهونة بتجنب تهمة «التواطؤ مع الإرهاب».
وفي هذه المساحة الضيقة، تنجح إسرائيل في خلق توازن جديد، لا يحتاج لاتفاقات أو ضمانات، بل يكفيه أن تكون الفوضى قائمة والذرائع جاهزة.