تكشف سرقة ست قطع ذهبية من المتحف الوطني في دمشق، كما ذكرت مروة جردي، عن هشاشة حماية التراث السوري، وتثير جدلاً بين الاتهامات السياسية والحقائق الميدانية. هذه الحادثة ليست الأولى، بل حلقة في سلسلة من عمليات النهب التي تطال تاريخاً يمتد لخمسة آلاف سنة.
عاد المتحف الوطني في دمشق إلى الواجهة بعد تقرير لوكالة «أسوشييتد برس» عن سرقة ست قطع أثرية ذهبية، بما في ذلك تماثيل ومقتنيات نادرة. يأتي هذا بعد أقل من عام على تكريم وزارة الثقافة للعاملين في المتحف لجهودهم في حمايته خلال الفوضى التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد نهاية عام 2024.
لم يصدر الخبر عن جهة سورية رسمية، بل عن وكالة أجنبية ذكرت أن السرقة طالت الجناح الكلاسيكي، بعد اكتشاف موظف لباب مخلوع في القاعة. وبعد انتشار الخبر، أصدرت الوزارة بياناً على «إكس» أعلنت فيه عن تشكيل لجنة لجرد محتويات المتحف وتحديد ما تم نهبه على يد النظام البائد وفلوله. واعتبر البيان أن المتحف تعرض لعمليات نهب مبرمجة في عهد النظام البائد، ووضعت قطع مزيفة مكان قطع أصلية نهبت لمصلحة مافيات مرتبطة بالمخلوع، وزادت هذه العمليات بعد عام 2011 مستغلة الأوضاع التي رافقت الثورة السورية.
وكانت المديرية العامة للآثار والمتاحف قد أكدت في وقت سابق أنه لم تحصل أي تعديات على المتحف، مشيرة إلى أنه أعيد فتحه في 8 كانون الثاني (يناير) 2025 بعد إغلاق مؤقت ليلة سقوط النظام خوفاً من تعرضه للتخريب أو النهب. غير أن سرقة القطع الجديدة أعادت الشكوك. وفي بيان ثان، نشرت الوزارة صور القطع المسروقة وهي ستة تماثيل يتراوح طولها بين 20 و40 سنتيمتراً تعرف باسم «فينوس»، وهي تماثيل لأجساد أنثوية، بعضها يرمز إلى آلهة الحب والجمال في الميثولوجيا الرومانية.
الخبيرة في التراث الثقافي المادي واللامادي رشا برهوم قالت إن التحقيقات يجب أن تشمل كل المتاحف والمواقع الأثرية في البلاد، بما في ذلك الرقة وإدلب وتدمر، الكتلة الكلسية ودورا أوروبوس وأفاميا والجزيرة السورية، مؤكدة أن النظام السابق يتحمل مسؤولية كبيرة عن نهب وتخريب المواقع الأثرية في المناطق تحت سيطرته، وكذلك حادثة سرقة في متحف حماه، لكن ذلك لا يعفي الجهات الأخرى من مسؤولياتها عن سرقات عدة للمتاحف في مناطق سيطرتها، داعية الحكومة الجديدة إلى مساءلة الحليف التركي عن تدميره مواقع أثرية سورية مثل معبد عين دارا في عفرين ومراجعة القطع الأثرية السورية المعروضة في «الدراك ويب» والسوق السوداء، ويعود معظمها إلى متاحف كانت تحت سيطرة المعارضة.
وأشارت إلى أن التراث السوري المادي واللامادي تعرض لكثير من التخريب خلال سنوات الحرب والعمليات العسكرية بسبب جهل الناس بأهمية هذا التراث للهوية الوطنية، ونشاط مجموعات التنقيب غير الشرعي والتهريب خلال أوقات الفوضى. ولم ينجُ إلا عدد قليل منها موجود في المجتمعات التي تعي أهمية الآثار كما في بصرى الشام ومعرة النعمان التي حرص أهلها على توثيق أعمال التنقيب والتبليغ عنها.
وذكّرت بدور مهم قامت به المديرية العامة للآثار والمتاحف في حماية عدد من المواقع والمتاحف الوطنية في المحافظات السورية، خصوصاً متحف حلب.
وفي مقابل الاتهامات التي أثارها بيان وزارة الثقافة حول إهمال أو تهاون في حماية المقتنيات خلال مدة حكم النظام، كان المدير العام الأسبق للآثار والمتاحف مأمون عبد الكريم نشر توضيحاً على صفحته الفايسبوكية في 30 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أكد فيه أن الغالبية المطلقة من المقتنيات الأثرية السورية حميت رغم ظروف الحرب، وأن عمليات الإنقاذ التي جرت بين عامَي 2012 و2017 تمت على أسس ميدانية دقيقة وبشهادات موثوقة من العاملين في القطاع داخل سوريا وخارجها.
وأشار إلى أن هذه الجهود لم تقتصر على تدمر، بل شملت نقل 30 ألف قطعة من متحف دير الزور بطائرات شحن، و24 ألف قطعة من متحف حلب عبر طرق محفوفة بالمخاطر، إضافةً إلى حماية مقتنيات حمص وحماة ودرعا والقنيطرة. وذكر بأن تلك العمليات نفذت بروح وطنية خالصة ومن دون أي مقابل مادي، وحظيت بتغطية إعلامية عالمية بوصفها من أبرز تجارب إنقاذ التراث الثقافي خلال النزاعات المسلحة. وختم بأن تسييس التراث السوري يسيء إلى جهود العاملين الذين خاطروا بحياتهم في سبيل الحفاظ على الذاكرة المشتركة. في المقابل، لم تعلق الوزارة على ما ورد في منشور عبد الكريم.
حادثة سرقة التماثيل الستة من المتحف الوطني في دمشق ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل طويل من النهب والدمار الذي طال التراث السوري على امتداد أكثر من عقد من الحرب. وبحسب بيانات المديرية العامة للآثار والمتاحف وتقارير اليونسكو، تضم سوريا ستة مواقع مدرجة على قائمة التراث العالمي، جميعها نقلت إلى قائمة الخطر منذ عام 2013.
وتشير التقديرات الصادرة عن اليونيسكو عام 2021 إلى أن نحو 750 موقعاً أثرياً تعرض لعمليات حفر أو نهب غير قانونية خلال سنوات الحرب، بينها 343 حفرة تنقيب غير مشروع في بصرى و461 حفرة أخرى في تدمر و130 في إيبلا. كما اختفت من تدمر وحدها أكثر من 3300 قطعة أثرية موثقة. وتعتبر المواقع الأثرية في شمال ووسط سوريا الأكثر نهباً وتدميراً خلال سنوات الحرب. وفي هذا الإطار، تشير الأرقام إلى أن نصف مباني حلب القديمة تضررت أو دمرت، فيما احترق سوق العصرونية في دمشق الذي يضم أكثر من مئة محل أثري.
ورغم بدء مشاريع ترميم محدودة، تقدر فترة التعافي الكامل لمواقع التراث السوري بما بين 15 و25 عاماً، في وقت ما تزال فيه معظم القرى الأثرية الشمالية مهجورةً. تقول مصادر في مجال حماية التراث إن هذه الأرقام تؤكد على أن الخطر على التراث السوري لم يتراجع بانتهاء المعارك العسكرية، بل يتخذ اليوم شكلاً جديداً يتمثل في النهب المنظّم والتغاضي الرسمي، وهو ما يجعل من حادثة المتحف جرس إنذار متأخر لبلد يمتلك خمسة آلاف سنة من الذاكرة المادية، ويبدو عاجزاً عن حمايتها.
وكنا قد نشرنا في تموز (يوليو) الماضي مقالاً أشار إلى نجاة المتحف الوطني من مصير نظيره العراقي عام 2003 بفضل موظفين آثروا البقاء لحمايته من النهب.
يومها، كرم وزير الثقافة محمد ياسين الصالح اثنين منهم تقديراً لجهودهما في إنقاذ المتحف ليلة سقوط النظام السابق. كما تم الإضاءة في تحقيق خاص حول عودة النشاط إلى أسواق التنقيب والتهريب في أكثر من منطقة خلال الشهور الماضية من قبل عصابات محلية وأفراد يائسون في ظل غياب السيطرة الأمنية. إلا أن سرقة مقتنيات من قلب العاصمة تبقى الأخطر والأكثر رمزية.
وعبّر السوريون عن غضبهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، متهمين الوزارة بالإهمال ومطالبين بتحقيق يشمل عرض سجلات كاميرات المراقبة وسجلات الدخول، خصوصاً أن المسروقات تضم عملات ذهبية تدمرية من عهد زنوبيا وتمثالاً لأفروديت. وجاء خبر سرقة المتحف بالتزامن مع انتشار فيديو للرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع في واشنطن مع نظيره الأميركي وهو يتحدث عن إهداء السيدة الأميركية الأولى نسخاً من الأبجدية الأولى والنوتة الموسيقية الأولى ما أثار تعليقات ساخرة تربط بين هدايا الرئيس والقطع المنهوبة من المتحف.