الأربعاء, 12 نوفمبر 2025 06:30 PM

تغطية "بي بي سي" للشأن السوري: بين التحيز الإعلامي وأزمة الحياد

تغطية "بي بي سي" للشأن السوري: بين التحيز الإعلامي وأزمة الحياد

تعتبر هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" من أعرق المؤسسات الإعلامية في العالم وأكثرها تأثيراً، لكن هذه المكانة لم تحمها من الوقوع في أخطاء مهنية متكررة أثرت على صورتها كمؤسسة يفترض أن تمثل الحياد والدقة. وقد تجلت هذه الأخطاء بوضوح في تغطيتها للشأن السوري، حيث طغى على عدد من تقاريرها الخطاب الطائفي والتوصيفات المذهبية، مما بدا أنه يبتعد عن المهنية التي طالما افتخرت بها المؤسسة.

في الآونة الأخيرة، خصت "بي بي سي" الشأن السوري بسلسلة تقارير حاولت فيها رسم ملامح المرحلة التي تلت سقوط النظام السابق، إلا أن كثيراً من هذه المواد انزلقت إلى التركيز على الانتماء الطائفي للضحايا أكثر من تناول السياق السياسي والاجتماعي للأحداث. عناوين مثل "قُتلوا لأنهم علويون" أو "الخوف بين الأقليات بعد سقوط النظام" لا تقدم وصفاً كاملاً للواقع، بل تساهم في إعادة إنتاج الانقسام المذهبي داخل الخطاب الإعلامي العالمي، عبر تحويل ما يجري في سوريا من مسألة وطنية شاملة إلى حكاية عن طوائف متناحرة.

هذا النهج، حتى وإن جاء بحسن نية أو بدافع إبراز المعاناة الإنسانية، يختزل المشهد السوري المعقد في ثنائية الجلاد والضحية على أساس طائفي، ويتجاهل العوامل السياسية والاجتماعية التي شكلت أساس الثورة الشعبية التي اندلعت في البلاد نتيجة الظلم والسياسات الاستبدادية التي مارسها النظام البائد على مدى ستة عقود.

من المهم الإشارة إلى أن القضية لا تتعلق بسوريا وحدها، بل بأزمة أوسع داخل المؤسسة نفسها. فقد شهدت "بي بي سي" خلال الأعوام الماضية تراجعاً في معايير التدقيق والتحقق، وارتكبت سلسلة من الأخطاء التحريرية التي طالت ملفات عدة، من التغطية السياسية في الغرب إلى قضايا الشرق الأوسط. هذه الأخطاء لم تقتصر على تفاصيل ميدانية، بل مست جوهر مبدأ الحياد الذي كان جزءاً من هوية الشبكة. وفي بيئة إعلامية عالمية متسارعة، يبدو أن المؤسسة لم تستطع دائماً تحقيق التوازن بين السرعة والمصداقية.

تراكم الإخفاقات التحريرية، وما تبعها من انتقادات داخلية وخارجية، أدى في النهاية إلى استقالة المدير العام للهيئة تيم ديفي ورئيسة الأخبار ديبورا تيرنس الشهر الجاري، بعد تقرير تلفزيوني اتُّهم بتضليل المشاهدين والتلاعب بالمحتوى. ورغم أن الحادثة التي عجّلت بالاستقالة لم تكن مرتبطة مباشرة بالتغطية السورية، فإنها عكست أزمة أعمق في المنظومة التحريرية للمؤسسة، التي بدت عاجزة عن ضبط منهج واضح يضمن الدقة والاتساق في تغطية القضايا الحساسة، خصوصاً تلك التي تمسّ مجتمعات منقسمة.

التغطية الإعلامية ليست مجرد نقل لوقائع العنف، بل هي مسؤولية أخلاقية تتعلق بكيفية بناء الرواية العامة. فحين تختار وسيلة إعلامية بارزة أن تصف القتل على أنه "طائفي" من دون تفكيك الأسباب السياسية والاجتماعية التي أنتجته، فإنها تسهم، عن قصد أو من دونه، في تثبيت البعد المذهبي كحقيقة مطلقة، وتهمش إمكانات الحل الوطني المشترك.

لذلك، فإن التحدي الحقيقي أمام المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل "بي بي سي" ليس في الوصول إلى المعلومة، بل في صياغة المعنى من دون الانزلاق إلى التبسيط أو التحريض. فاللغة الصحفية حين تنفصل عن الحس الإنساني والسياسي المتوازن تتحول إلى أداة لإدامة الصراع لا لفهمه.

وترى مصادر إعلامية متابعة أن الوقت حان لأن تعيد "بي بي سي" النظر في سياساتها التحريرية تجاه الشرق الأوسط، وأن تراجع طريقة اختيار القصص والعناوين والمصادر التي تُبنى عليها تقاريرها. فالقضية السورية لا يمكن تناولها بمنطق الأقليات والأكثريات فقط، بل باعتبارها تجربة وطنية وإنسانية متشابكة تتطلب فهماً يتجاوز حدود الانتماءات الدينية والمذهبية.

وإذا كانت استقالة مديرها العام تعبر عن محاولة لإعادة ضبط البوصلة التحريرية للمؤسسة، فإن أول اختبار حقيقي لذلك سيكون في كيفية تصحيح سردية "بي بي سي" عن سوريا، لتصبح أكثر عمقاً وتوازناً وإنصافاً.

في مواجهة هذا الخلل المتزايد في الخطاب الإعلامي الدولي، تبرز الحاجة إلى إعلام وطني مهني ومتوازن، يملك القدرة على نقل الصورة الحقيقية عن المجتمع السوري بمختلف مكوناته، من دون تضخيم أو تحريض أو اختزال. فالإعلام الذي يستند إلى المسؤولية والوعي الوطني هو القادر على مواجهة السرديات الخارجية المغلوطة، وتصحيح المفاهيم التي تُرسم عنا في العواصم الغربية. إن بناء الثقة يبدأ من الداخل، والإعلام السوري مطالب اليوم بأن يكون صوت الحقيقة والعقل في زمن يزداد فيه الصخب والتضليل.

مشاركة المقال: