الأربعاء, 12 نوفمبر 2025 03:50 PM

حلب: ذكريات شخصية من المقابر المسيحية ورائحة الوطن

حلب: ذكريات شخصية من المقابر المسيحية ورائحة الوطن

بقلم: المهندس باسل قس نصر الله

أتذكر جيدًا أول زيارة لي إلى المقابر المسيحية، كنت في العاشرة من عمري، وشرعت حينها بممارسة ما اعتقدت أنه قراءة حقيقية. كنت أقرأ أسماء الراحلين المنقوشة على شواهد القبور، أتهجى الحروف بتمعن، وأربط أسماء العائلات بأسماء أصدقائي المسيحيين. ثم أعود إليهم، غارقًا في الفضول، أسألهم عن تلك الأسماء، عن أقاربهم الذين فقدوهم، وعن صلات القرابة التي تجمعهم.

في تلك اللحظة، بعقل طفل لم يدرك بعد معنى الفقد الحقيقي، استوعبت أن المقابر، كما يقال، هي "أهلية محلية"، فالجميع يعرف الجميع.

لكن ما لم أفهمه إلا بعد سنوات هو ذلك الشعور الغريب بالراحة الذي غمرني آنذاك. ربما كان طمأنينة خفية بأنني يومًا ما، لن أُدفن بين غرباء.

مرت السنوات، وحل زمن الثورة. رأيت مدينتي حلب، وسورية بأكملها، تنزف من حجارتها وشوارعها، وتفرغ من سكانها واحدًا تلو الآخر. هاجر من هاجر، وتشتت الأحباب والأصدقاء، ومنهم من عبر إلى بيروت بحثًا عن قليل من الراحة من أعباء الحرب، ثم ذاب في أصقاع الأرض، تاركًا خلفه مقبرة أجداده خالية إلا من الريح.

لم ولن ألوم أحدًا منهم، فلكل منهم أسبابه وخوفه وحقه في النجاة.

ولم أدعِ بطولة البقاء، فبقائي لم يكن بطولة بقدر ما كان خوفًا... خوفًا من أن أُدفن في أرض غريبة لا تعرفني، ولا يعرفني موتاها. فكيف لي أن أموت في مدينة لا تحمل وجهي في ذاكراتها؟

كيف لي أن أُوضع تحت تراب لم أضحك عليه يومًا، ولم تلامسني شمسه أو برودته؟

أنا من الذين يحبون الناس. وفي شوارع حلب، حين أمشي، تتبعني الأسماء والوجوه والتحيات.

يسلم عليّ الناس، وأرد التحية، وكأننا عائلة واحدة في مدينة واحدة.

لا أستطيع أن أتخيل نفسي في مدينة لا يعرفني فيها أحد، ولا تعرفني أرصفتها.

في حلب، هذه المدينة التي تنام على كتف التاريخ، يعرفني الناس وأعرفهم.

حجارتها تعرف خطوي، وأرصفتها تحفظ وقع أقدامي، ومزاريب بيوتها ما زالت تهمس بأصوات المطر الذي كنا نسمعه سويّة.

باعتها، الجوالون، عمال النظافة، شرطة المرور، وحتى ذبابها وبعوضها... جميعهم صاروا جزءًا من اعتيادي.. من يومي.. من حياتي.

فكيف لي أن أموت بعيدًا عن كل هذا؟ وأن أُدفن في مدينة لا تناديني باسمي؟

أن أرقد بين موتى لا وجوه لهم في ذاكرتي؟

نعم، ربما هناك مدن أجمل من حلب، كما أن في الدنيا أمهات أجمل وأكثر علمًا وثقافة من أمي... لكن، رغم ذلك، لا أحب إلا أمي.

وسورية، بكل مدنها وترابها، هي أمي التي أحبها... وكفى.

لهذا لم أغادر.. ولكن مستقبلًا من يدري.

ولا أعرف إن كنت قد أحسنت الاختيار أو أنتظر، لكني أعلم شيئًا واحدًا:

أنني أنادي اللهمّ اشهد أنّي بلّغت.

(اخبار سوريا الوطن-1)

مشاركة المقال: