الإثنين, 10 نوفمبر 2025 01:51 PM

الشرع في البيت الأبيض: تحولات سوريا الجديدة ووظيفتها الإقليمية والدولية

الشرع في البيت الأبيض: تحولات سوريا الجديدة ووظيفتها الإقليمية والدولية

شبكة أخبار سوريا والعالم/ مع انهيار نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة جديدة تتسم بالتحول السياسي وإعادة التموضع الإقليمي. هذه المرحلة هي نتيجة موازين القوى التي ظهرت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو تاريخ يمثل نقطة تحول إقليمية كبيرة فتحت الباب أمام تحولات استراتيجية غير مسبوقة منذ أكثر من ستة عقود. من الواضح أن التركيبة السورية الجديدة، بدعم قوي من السعودية وقطر وتركيا، نجحت في إعادة تدوير نفسها وإعادة صياغة دور سوريا. لذا، فإن دخول أحمد الشرع غدًا (الإثنين) إلى البيت الأبيض كأول رئيس سوري يلتقي رئيس الولايات المتحدة في مكتبه البيضاوي، يمثل مشهدًا تاريخيًا يعكس عمق التحولات ويمهد لمزيد من الانخراط السوري في منظومة المصالح الأميركية الغربية في المنطقة، وصولًا إلى الشراكة مع التحالف الدولي تحت عنوان "محاربة تنظيم داعش"، وإعادة دمج سوريا في النظامين العربي والدولي على أساس إنهاء حالة العداء مع إسرائيل.

في هذا السياق، يسعى النظام السوري الجديد إلى لعب دور مزدوج: إعادة بناء الدولة ومؤسساتها داخليًا وإعادة تموضع سوريا إقليميًا. ومن أبرز ملامح هذا التموضع سعي دمشق إلى إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا وإضعافه في جوارها اللبناني والعراقي، مما يعكس استعادة القرار السيادي من جهة وإرضاء الحاضنة العربية والدولية التي تعتبر ملف النفوذ الإيراني أحد الشروط الأساسية لإعادة احتضان سوريا سياسيًا واقتصاديًا من جهة ثانية. بهذا المعنى، لم يعد دور النظام الجديد يقتصر على إدارة مرحلة انتقالية، بل أصبح دوره محوريًا في إعادة تعريف الوظيفة السورية ضمن النظام الإقليمي من خلال توازن دقيق بين مكافحة الإرهاب والانخراط في مشاريع التكامل الإقليمي والتعامل العقلاني مع الحساسيات الجيوسياسية المتراكمة، خاصة فيما يتعلق بإيران وحلفائها في المشرق العربي، بالإضافة إلى إعادة صياغة العلاقة مع إسرائيل انطلاقًا من إنهاء حالة العداء بين الجانبين.

هناك قناعة لدى القيادة الجديدة بأن سوريا، لكي تعود لاعبًا رئيسيًا في المنطقة، يجب أن يُنظر إليها من خلال ثلاثة أبعاد رئيسية: أولاً، الانخراط في السلام الإبراهيمي. ظهر مفهوم السلام الإبراهيمي في أعقاب توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية التي رعتها الولايات المتحدة عام 2020 وجمعت إسرائيل بكل من الإمارات والبحرين ثم لاحقًا السودان والمغرب. يرتكز هذا المفهوم على استدعاء شخصية النبي إبراهيم بوصفه أبًا روحيًا مشتركًا للديانات التوحيدية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام بهدف الترويج لفكرة التعايش الديني والتفاهم الثقافي بين الشعوب. السلام الإبراهيمي لا يقتصر على كونه مجرد خطاب أو لافتة دينية، بل يشكل أداة سياسية ناعمة لإعادة صياغة التحالفات في الشرق الأوسط على أساس فصل مسار التطبيع مع إسرائيل عن القضية الفلسطينية وتكريس المشروع الإيراني بوصفه أحد عناصر التهديد المشترك لأطراف الاتفاقيات الإبراهيمية!

باختصار، لم يعد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي سواء للضفة الغربية أو قطاع غزة أو الجولان السوري المحتل شرطًا مسبقًا للتطبيع، بل تم استبداله بخطاب جديد مغلف بعناوين السلام والانفتاح، لكنه في جوهره يعيد تدوير موازين القوى الإقليمية وفق المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة وإسرائيل، وصولًا إلى خلق منظومة أمنية إقليمية جديدة تسعى واشنطن وتل أبيب إلى إدخال "سوريا الجديدة" ضمنها. ثانيًا، تحول في عقيدة الجيش السوري: من أبرز تجليات التحول السوري بعد سقوط نظام الأسد، شروع القيادة الجديدة في تفكيك البنية الأمنية القديمة التي شكلت عماد الحكم الاستبدادي لعقود. لم تعد الأجهزة الأمنية بمثابة دولة داخل الدولة، بل بدأت تتعرض لإعادة هيكلة شاملة تهدف إلى استعادة ثقة المواطن وتطبيق مبدأ فصل السلطات وفق معايير المساءلة والشفافية.

تم حل أو دمج بعض الفروع الأكثر تورطًا في الانتهاكات، بينما جرى إقصاء العناصر المرتبطة ارتباطًا عضويًا بإيران وروسيا أو المتورطة في إدارة شبكات تهريب وتغذية الميليشيات في الخارج، وذلك في إطار توجه واضح نحو استعادة القرار السيادي السوري من قبضة الحرس الثوري والقيادة العسكرية الروسية. هذه العملية يرعاها الأتراك بتفاصيلها الدقيقة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة ودول الخليج. بالتوازي، شرعت دمشق في تعديل العقيدة العسكرية للجيش السوري لتتحول من عقيدة قائمة على التعبئة ضد العدو الإسرائيلي وحماية النظام البعثي إلى عقيدة وطنية دفاعية تستند إلى حماية الحدود والاستقرار، ولا تشجع على التنطح لأدوار إقليمية، إلا ضمن سياقات محددة كالتحالف الدولي لمحاربة داعش، بناء على طلب الأميركيين.

ثالثًا، الخريطة الطاقوية في شرق المتوسط: مع سقوط النظام السوري، عادت إلى الواجهة مشاريع الطاقة المؤجلة وعلى رأسها مشروع خط الغاز القطري التركي الذي بدأ الحديث عنه علنًا في العام 2009 ورفضه النظام السابق تحت ضغط التحالف مع طهران وموسكو اللتين كانتا ترغبان بمد خط غاز مدعوم منهما يمر بالعراق وسوريا وصولًا إلى المتوسط. كان يُراد للخط القطري أن يربط "حقل الشمال"، أكبر حقل غاز طبيعي قطري في العالم، بأوروبا عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا، والهدف هو توفير بديل طاقوي لأوروبا عن غاز روسيا، وبالتالي تقليل الاعتماد عليه، مخافة أي تطورات تؤدي إلى إحراج الأوروبيين في ظل اعتمادهم الكبير على غاز روسيا.

ولا تنفصل عودة الحديث عن خط الغاز القطري عن السياق الأوسع لتحولات النظام الإقليمي والتنافس المحموم على ممرات الطاقة البديلة، خاصة في ظل تعمق الصراع الطاقوي بين روسيا والغرب وتزايد حاجة أوروبا إلى تنويع مصادر الغاز بعد حرب أوكرانيا.

من هنا، بات موقف النظام السوري الجديد من مشروع الغاز القطري يمثل اختبارًا حاسمًا لاتجاهات سياساته الخارجية وقدرته على إعادة تعريف الدور السوري في شبكة التوازنات الإقليمية. الغاز والاستقرار.. صنوان النظام الجديد في دمشق يبدو واعيًا بأن الشرعية السياسية بعد الحروب الأهلية لا تُكتسب فقط من خلال السيطرة الميدانية أو التحالفات العسكرية، بل من خلال تكريس سوريا كفاعل إقليمي منتج لا كساحة صراع وظيفية.

ويشكل مشروع الغاز القطري التركي فرصة استراتيجية لترجمة هذا التحول ليس فقط عبر جذب الاستثمارات والمساعدات، بل عبر الانخراط في منظومة طاقوية إقليمية ودولية تعيد توصيل سوريا بالأسواق الأوروبية وتجعل منها عقدة أساسية في معادلة أمن الطاقة العالمي. إن خيار دمشق الجديدة بفتح المجال أمام الخط القطري لا يُقرأ بمعزل عن محاولتها التحلل من تبعية مزدوجة لإيران وروسيا اللتين استخدمتا سوريا كساحة عبور لمشاريعهما الطاقوية دون أن تمنحا الدولة السورية هامشًا فعليًا في القرار أو الريع أو السيادة الاقتصادية. ثمة صراع واضح على النفوذ والتحكم بمفاتيح الجغرافيا الطاقوية.

لذا، يصبح الموقف من أي مشروع أنابيب ليس قرارًا اقتصاديًا بحتًا، بل مرآة لتوجهات الدولة السورية الجديدة ومدى استعدادها للتخلي عن عقائدها وعقدها السابقة لمصلحة التكيف مع الوقائع الجديدة، وصولًا إلى تأمين بيئة مستقرة سياسيًا واقتصاديًا واستثماريًا وأمنيًا لكل المشاريع الاستثمارية، وفي طليعتها المشاريع الطاقوية. في هذا السياق، يمكن رصد القمة التي ستجمع غدًا (الإثنين) دونالد ترامب بنظيره السوري أحمد الشرع، على وقع المزيد من الخطوات الأميركية الهادفة إلى التخفيف من وقع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على النظام السابق وساهمت في سقوطه. ويبقى السؤال: هل يملك النظام الجديد من العناصر ما يكفي لتأكيد ثبات حضوره ونفوذه وقدرته على معالجة الأزمة السورية بكل أبعادها أم أنه سيتصرف على قاعدة أنه مجرد مرحلة انتقالية، لا أحد يستطيع التنبؤ مسبقاً بطولها أو قصرها؟

180Post

مشاركة المقال: