الأحد, 9 نوفمبر 2025 03:25 PM

سد النهضة: صراع جيوسياسي يهدد الأمن المائي المصري ومشروع "إسرائيل الكبرى"

سد النهضة: صراع جيوسياسي يهدد الأمن المائي المصري ومشروع "إسرائيل الكبرى"

تعتبر الخلافات بين مصر وإثيوبيا من أخطر النزاعات الجيوسياسية في إفريقيا والعالم العربي. على الرغم من أن أزمة سد النهضة ظهرت مع بداية "الربيع العربي" عام 2011، إلا أن التحضيرات له تعود إلى الخمسينيات، مما يثير تساؤلات حول الجهات التي تتلاعب بأمن المنطقة المائي والغذائي والجيو-إستراتيجي.

الأمر لا يتعلق فقط بحصص المياه التي تعتبر حقًا لمصر بموجب المعاهدات، بل هو محاولة لإلهاء مصر وجرها إلى نزاعات أكبر، بهدف إضعاف الجيش المصري، الذي يعتبره الكيان الصهيوني، بدعم من أمريكا والغرب، تهديدًا له.

اعتبرت القاهرة إعلان مشروع سد النهضة الكبير عام 2011 تهديدًا وجوديًا لأمنها المائي، فالنيل هو شريان الحياة لمصر منذ آلاف السنين. ورغم أن أديس أبابا قدمت المشروع كرمز للسيادة الوطنية والتنمية الاقتصادية، إلا أن التحليل العميق يكشف أن الخلاف يتجاوز الجوانب التقنية والقانونية، ويرتبط بشبكة من التحالفات والمصالح الإقليمية والدولية التي تسعى لإعادة صياغة التوازنات.

إنه صراع جيوسياسي يتعلق بإعادة توزيع النفوذ والهيمنة في "الشرق الأوسط" وإفريقيا، ويتجاوز قضايا المياه والتنمية ليشمل الأمن الإقليمي واستراتيجيات القوى الدولية.

منذ الخمسينيات، سعت "تل أبيب" لبناء تحالفات مع دول منابع النيل، خاصة إثيوبيا، بهدف تطويق مصر مائيًا، وقدمت لإثيوبيا دعمًا تقنيًا واستشاريًا في مجالات السدود والري والطاقة، لجعل المياه أداة نفوذ وضغط سياسي على الدول العربية.

لم يعد سد النهضة مشروعًا إثيوبيًا خالصًا، بل ورقة إقليمية تتقاطع فيها مصالح "تل أبيب" وواشنطن مع طموحات أديس أبابا، لإعادة هندسة موازين القوى في المنطقة، وتحويل النيل إلى أداة "جيوسياسية" تعكس تطور الصراع من السيطرة على الأرض إلى التحكم بمصادر الحياة، لتوظيف الخلاف المصري الإثيوبي ضمن مشروع يهدف إلى إعادة رسم الخريطة المائية والسياسية لـ"الشرق الأوسط" بما يخدم "إسرائيل الكبرى".

سد النهضة هو ركيزة "جيوسياسية" في منظومة مشاريع "إسرائيلية" أمريكية تسعى لإعادة هندسة الخريطة المائية والطاقوية في "الشرق الأوسط" وإفريقيا، بما يخدم مصالح القوى الصاعدة في النظام الإقليمي الجديد.

تبنت النخب الصهيونية والأمريكية تصورًا "جيوسياسيًا" يقوم على أن أمن "إسرائيل" لا يتحقق داخل حدودها الضيقة، بل عبر امتداد نفوذها الاقتصادي والأمني إلى محيطها العربي والإفريقي، خاصة إلى منابع المياه في إفريقيا والبحر الأحمر.

سعت "تل أبيب"، عبر تحالفاتها مع إثيوبيا وكينيا وأوغندا، لخلق طوق استراتيجي حول مصر والسودان، لتمكينها من التأثير في توازنات نهر النيل، وبالتالي في القرار المائي والسياسي العربي. وقد جاء ذلك ضمن ما سمي بـ "عقيدة الأطراف" أو "نظرية الأطراف" لـ"بن غوريون"، الذي قال إن أمن "إسرائيل" لا يمكن أن يتحقق ضمن حدودها الجغرافية الضيقة، بل يجب أن يمتد نحو تحالفات مع دول غير عربية محيطة بالعالم العربي مثل تركيا وإيران (قبل الثورة) وإثيوبيا، لتطويق الدول العربية من الخارج.

كتب "بن غوريون" في مذكراته أن بقاء "إسرائيل" يعتمد على تحالفات تتجاوز حدودها، وهو الأساس النظري لفكرة "الأمن خارج الحدود".

بين عامي 1956 و 1964، أجرت الولايات المتحدة عبر "مكتب استصلاح الأراضي الأميركي" دراسات حول إمكانية بناء سدود على النيل الأزرق في إثيوبيا، بهدف إضعاف النفوذ المصري الناصري المتحالف مع الاتحاد السوفياتي. وكتب المؤرخ الصهيوني، حغّاي ايرليخ، أن الدراسات الأميركية جاءت في سياق استراتيجي يهدف إلى الحد من نفوذ مصر الناصري في إفريقيا، وأن واشنطن استخدمت إثيوبيا كحليف مائي إقليمي لموازنة الدور المصري المتصاعد.

شبك الكيان العلاقة مع إثيوبيا في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، الذي حافظ على علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة والكيان، ودعم الأخير منذ العام 1948، وسمح له باستخدام الأراضي الإثيوبية لأغراض استخباراتية وعسكرية في البحر الأحمر والقرن الإفريقي من أجل ترسيخ نفوذ إثيوبيا في حوض النيل، فبنى مع الكيان علاقات وثيقة في مجال الزراعة والأمن والمخابرات، ومهد للسياسات المائية اللاحقة وأهمها سد النهضة، وسمح بهجرة الآلاف من اليهود الفلاشا الإثيوبيين، إلى فلسطين المحتلة.

لاحقًا، باتت هذه الإستراتيجية المرجع الفكري والسياسي لكل الحكومات الإثيوبية، من منغستو هيلا مريام إلى ميلس زيناوي. أحياها الأخير عبر مشروع "إحياء الأمة الإثيوبية"، من خلال إطلاق بناء سد النهضة عام 2011، مستغلًا ضعف مصر السياسي خلال "سني ربيعها". وترتكز الإستراتيجية على المياه والجبال وموقع إثيوبيا الجغرافي التي يمكن أن تكون أدوات قوة إقليمية وليست مجرد موارد طبيعية عبر تحويل الهضبة الإثيوبية إلى مركز تحكم في منابع النيل والقرن الإفريقي ونقل الثقل المائي من شمال النيل إلى إثيوبيا.

ما تريده أديس أبابا هو إعلان سيطرتها من جديد. وهكذا نجح الكيان بالفعل في تطويق الماء العربي. التحكم في موارد المياه في مصر والسودان هو عنصر أساسي إستراتيجي في مفهوم "الأمن الصهيوني الشامل". لجوء مصر للتهديد العسكري في حال استمرت إثيوبيا بحبس مياه النيل، ودخول الجيش المصري في حرب مع إثيوبيا هو تبديد لقوته في المواجهة مع الصهاينة، وهو الجيش العربي الوحيد الذي تخشاه "إسرائيل".

اليوم الجميع يحاصر مصر، خاصة وأن المستثمرين في السد هم من مختلف الدول العربية الخليجية وإن كان في الاستثمارات الزراعية، وإثيوبيا تريد إنهاء اتفاقيات المياه 1929 و 1939، وتريد استعادة موقعها كإمبراطورية، لقد كانت 2011، فعليًا بداية تشرذم القوّة العربية ونهايتها.

مشاركة المقال: