الجمعة, 7 نوفمبر 2025 02:18 PM

غزة: 15 ألف مفقود تحت الأنقاض.. هل تحولت المدينة إلى أكبر مقبرة جماعية في العالم؟

غزة: 15 ألف مفقود تحت الأنقاض.. هل تحولت المدينة إلى أكبر مقبرة جماعية في العالم؟

في حي التفاح، شرقي مدينة غزة، حيث تطل الشمس من بين ركام المنازل المدمرة، بدأ الأهالي يومهم المضني. رجال ونساء يحملون الدلاء المليئة بالحجارة، بينما ينهمك آخرون بتكسير أعمدة الباطون. وسط هذا المشهد، يحفر عميد حمادة، وسط الركام، بحثاً عن جثمان نجله الشهيد مصطفى.

بالتوازي، تدخل قافلة من سيارات منظمة «الصليب الأحمر»، ترافقها جرافات وشاحنات ومعدات حفر، شارع بغداد في حي الشجاعية، للبحث عن جثامين جنود قتلى إسرائيليين.

بينما قد تنتهي المهمة في حي الشجاعية سريعاً، يشعر أبو مصطفى بأن انتشال جثمان نجله قد يستغرق العمر كله. ويقول الوالد المجهد: «بناية من خمس طبقات أطبقت على الجسد النحيل». ويضيف: «في الـ29 من أيلول الماضي، قصفت طائرة حربية المنزل الذي كان يؤوينا في حي التفاح. هُدم على رؤوسنا. صحونا ونحن غرقى في الغبار والظلام. بعدما تفقّدت بناتي، بدأنا بالبحث عن مصطفى وابن شقيقي أسامة، كانوا في الشقّ الشرقي من المنزل. كنا نبحث عنهم رغم القصف المدفعي والقنابل التي تطلقها طائرات (الكواد كابتر)، قبل أن يشتدّ الخطر ونضطرّ لترك المنطقة».

تتأمل والدة مصطفى حطام البيت، قائلةً: «لم أشعر يوماً أنّ مصطفى كان طفلاً. بدأ حياته كبيراً. لديه شخصية مستقلّة وفريدة، وطقوسه وكراكتاره الخاص. كان يقرأ الكتب بنهم شديد. بدأ حفظ القرآن في سنّ العشر سنوات، وأتمّه قبل أن يصل الثانوية العامة. قبل ثلاث سنوات، كان عضواً في فريق التصميم والتكنولوجيا في (مركز القطان الثقافي)، وصمّم مشروعاً إلكترونياً للتحذير من الحرائق وتبليغ الفرق المتخصّصة في كافة منازل القطاع من دون الحاجة إلى تدخّل بشري، ونال براءة اختراع فيه. كان متفوّقاً في مدرسته، وعبقرياً في البرمجة وشغوفاً بمجال الذكاء الاصطناعي. لديه صوت ندي وجميل في قراءة القرآن. كان يَؤمّنا في كل الصلوات، وآخر ما استقرّ في أذني في تلك الليلة هو صوته وهو يؤمّنا في صلاة العشاء».

وبعدما اضطرت العائلة إلى استصلاح ما تبقى من المنزل، تتساءل الوالدة عما إذا كان بإمكان أحد أن يتخيل أن «تعيش أنت وجثمان ابنك في ذات المكان. وتصحو كل يوم وتعدّ الفطور، لتشعر بروحه تطوف حولك، وبجسده قريباً منك، دون أن تراه؟». قبل عشرة أيام، اضطرت العائلة للعودة إلى المنزل المدمر، بعدما «لم يتبقّ لها خيار آخر». يقول أبو مصطفى: «أصعب شيء يمكن أن يختبره أب أو أمّ في الدنيا، هو أن يعيشوا مع جثمان ابنهم في ذات المنزل، لا تزال أم مصطفى، تُعدّ لمصطفى فراشه قبل النوم، وتصبّ له كأس الشاي في الصباح، وتحجز له مكاناً شاغراً وقت الغذاء».

وتتابع الوالدة وهي تقلب في صوره: «ربما يعود، ربما يقرّر في ذات صباح أن يشاركنا الفطور ويعيش معنا يوماً نستعيد فيه الحياة التي كان ركناً فاعلاً وأساسياً فيها». ومع انتصاب عمود الشمس، صار علينا أن نغادر حي التفاح تاركين أبو مصطفى وحيداً مع مهمّته الشاقّة، التي زادها ثقلاً إصرار زوجته على أن تجد ابنها قبل الشتاء، «كيلا تمطر الدنيا عليه».

في الطريق إلى حي الشجاعية، تضيق الطرق بزحام السيارات الحديثة، من جيبات الدفع الرباعي التابعة لـ«الصليب الأحمر» إلى مركبات الصحفيين الذين يواكبون المهمّة، وسط انتشار مكثّف لعناصر وحدة الظلّ التابعة لكتائب «القسام». حفرت الجرافات مساراً طويلاً في شارع بغداد في أماكن يعتقد أنها تحوي جثامين لقتلى إسرائيليين، فيما وسائل الإعلام تنقل الحدث لحظة بلحظة.

وعلى بعد بضعة أمتار من موقع الحفر، ترقد جثامين نحو ألف شهيد قضوا في مجزرة كبرى ارتكبتها الطائرات الحربية في منطقتي الطوابين وأبو العظام. وطبقاً لرمضان أبو سكران، فقد قضت عائلات كاملة في أحزمة نارية مكثّفة، على يمين شارع بغداد في منطقة الطوابين، «ولم يتبقَ من يبكي أو يبحث عنهم». وعلى يسار منطقة الحفر، في شارع أبو العظام، قُصفت المنازل بقنابل مرعبة استشهد بفعلها ألف مواطن، منهم من تبخّرت أجسادهم أو بقوا تحت الركام، بحسب أبو سكران الذي يضيف أنه «لا أحد من رؤساء الدول أو الزعماء يعرف أسماء هؤلاء، أو يبحث عنهم».

ويقدّر عدد المفقودين الذين قضوا تحت أسقف المنازل المأهولة، منذ بداية الحرب، بـ15 ألفاً، فيما لا يكفي ما تبقّى من آليات الدفاع المدني والمعدّات المتوفّرة – دمر جيش الاحتلال 98% منها -، لانتشال أي منهم حتى اللحظة. على هذا النحو، يتعذّر أن تكرّم جثامين المفقودين عبر دفنها في المقابر التقليدية، كما لن تكون لهم قبور يذهب ذووهم إليها في كل يوم خميس لقراءة الفاتحة، وهو ما دفع بـ«اللجنة الوطنية لشؤون المفقودين» في حرب الإبادة في غزة إلى عقد مؤتمر صحافي، أمس، تطالب فيه العالم بإدخال فرق دُولية لانتشال جثامين المفقودين. ودعت اللجنة، في بيانها الصحفي، «العالم إلى توفير فرق طبّية لتحديد هوّية المفقودين، وإدخال المعدّات اللازمة لانتشالهم، بعدما تحوّلت غزة إلى أكبر تجمّع للمقابر في العالم»، مشيرةً إلى أنّ «كل ما نريده هو حفظ كرامة الإنسان حياً وميتاً».

مشاركة المقال: