الخميس, 30 أكتوبر 2025 08:39 PM

نزيف اقتصادي: كيف تبخر 200 مليار دولار من سوريا إلى الخارج؟

نزيف اقتصادي: كيف تبخر 200 مليار دولار من سوريا إلى الخارج؟

شبكة أخبار سوريا والعالم/ قبل عامين، سافر تاجر عقارات سوري إلى القاهرة، عاصمة مصر، بهدف افتتاح مطعم أو مقهى صغير لاستثمار أمواله. لكنه عاد بعد أسبوعين بخيبة أمل، قائلاً: "لقد تأخرت. معظم أصحاب المطاعم والمنشآت السياحية الذين أعرفهم سبقوني وافتتحوا فروعًا لهم في مصر، خاصة في المناطق التي يقطنها السوريون بكثافة." وأضاف بحسرة: "يبدو أن اقتصاد سوريا قد انتقل إلى الخارج."

هذه العبارة تلخص وضعًا اقتصاديًا معقدًا استمر لأكثر من 15 عامًا من الحرب، والتي لم تقتصر تداعياتها على هجرة رؤوس الأموال الكبيرة، بل شملت أيضًا الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، التي وجدت في الخارج بيئة أكثر استقرارًا وفرصًا أفضل للنمو.

آلاف الشركات السورية خارج الحدود

تشير بيانات غرف التجارة والصناعة في تركيا ومصر والأردن إلى أن السوريين أسسوا آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة خلال سنوات الحرب. ففي تركيا، تصدروا قائمة المستثمرين الأجانب بين عامي 2016 و2017، وفقًا لاتحاد الغرف والبورصات التركية. أما في مصر، فقد أنشأ السوريون أكثر من 30 ألف منشأة بين عامي 2012 و2022، بحسب وزارة الاستثمار المصرية.

هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الخسارة التي تكبدها الاقتصاد السوري، بل تسلط الضوء أيضًا على المكاسب التي حققتها اقتصادات الدول المضيفة، والتي استفادت من تدفق الخبرات ورؤوس الأموال السورية.

من نزوح مالي إلى اقتصاد خارجي متكامل

قبل اندلاع الأزمة في 2011، كانت التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن حجم رؤوس الأموال السورية المستثمرة في الخارج يتراوح بين 60 و100 مليار دولار. ورغم محاولات الحكومة آنذاك لاستقطاب استثمارات المغتربين، إلا أن النتائج بقيت محدودة. فبحسب وزارة السياحة، لم تتجاوز استثمارات المغتربين في القطاع السياحي 1% من إجمالي المشاريع قيد التنفيذ عام 2010.

ومع اشتداد الحرب، بدأت رؤوس الأموال بالهروب سريعاً، تبعتها شرائح واسعة من الصناعيين والتجار وحتى الأفراد، الذين باعوا ممتلكاتهم لتأسيس مشاريع صغيرة في الخارج. وتُقدّر بعض الدراسات أن حجم الأموال التي خرجت من سوريا يتراوح بين 100 و150 مليار دولار، تشمل أموالاً إنتاجية وتجارية ومدخرات، وحتى أموالاً غير مشروعة نشأت خلال سنوات الحرب.

تحويلات مالية ضخمة… ولكن

رغم خروج هذه الكتلة المالية الضخمة، استمرت التحويلات المالية إلى الداخل، وبلغت نحو 35 مليار دولار خلال سنوات الحرب، بمعدل 2.5 مليار دولار سنوياً. ومع احتساب الاحتياطات النقدية التي كانت تقارب 20 مليار دولار عام 2011، فإن مجموع الأموال التي غادرت النظام المالي السوري بشكل مباشر أو غير مباشر يُقدّر بنحو 55 مليار دولار. ومع إضافة الأموال غير المصرفية والتدفقات غير المعلنة، ترتفع التقديرات إلى أكثر من 200 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الحالي.

خارطة توزع الأموال السورية

توزعت هذه الأموال على عدة دول، أبرزها تركيا ومصر ولبنان والأردن والإمارات. ففي تركيا، تركزت الاستثمارات في قطاعات النسيج والتجارة والمطاعم، بينما اتجهت في مصر نحو الصناعات الخفيفة والعقارات. أما في الخليج، فبرزت في العقارات والخدمات المالية. ويمثل لبنان حالة خاصة، إذ كانت بيئته المالية سهلة لكن غير آمنة، ما أدى إلى تضرر أموال السوريين بعد الانهيار المصرفي عام 2019.

وبحسب تقرير “Arab Investment Monitor” لعام 2023، يُعد السوريون من بين أكبر عشر جاليات مستثمرة في العالم العربي من حيث عدد المشاريع، رغم غياب الدعم الرسمي من دولتهم الأم.

هل تعود الأموال؟

رغم التحديات، شهدت الأشهر الأخيرة توقيع مذكرات تفاهم بين رجال أعمال سوريين في الخارج والحكومة الانتقالية في دمشق، لتنفيذ مشاريع في مجالات العقارات والبنى التحتية. كما قدّم بعضهم تبرعات ذات طابع إنساني وسياسي. لكن هذه المبادرات لا تزال رمزية، ولن تتحول إلى استثمارات حقيقية ما لم تتوفر بيئة أعمال مستقرة وآمنة.

التحدي الحقيقي: بناء بيئة جاذبة

التحدي الأكبر لا يكمن في استعادة الأموال، بل في خلق بيئة اقتصادية جديدة قادرة على جذب الاستثمارات السورية والأجنبية. فالمستثمر لا يهتم كثيراً بهوية النظام السياسي، بقدر ما يبحث عن وضوح القوانين واستقرار السوق. والدليل أن رؤوس الأموال لم تغادر مصر بعد 2013، ولا الإمارات بعد تحسن علاقاتها مع دمشق.

الفرص الضائعة… والرأسمال الممكن

الخسارة لم تكن مالية فقط، بل تنموية أيضاً. فالمشاريع السورية في الخارج وفرت مئات آلاف فرص العمل، وأسهمت في نقل خبرات صناعية وتجارية متراكمة. هذا “الاقتصاد السوري الخارجي” بات اليوم قاعدة إنتاجية إقليمية متكاملة، يمكن أن تتحول إلى رافعة مستقبلية إذا ما تم استثمارها بالشكل الصحيح.

لكن ذلك مرهون بقدرة الحكومة الانتقالية على تقديم نموذج اقتصادي شفاف، خالٍ من البيروقراطية والفساد، يعيد الثقة للمستثمرين ويشجعهم على العودة.

الاخبار

مشاركة المقال: