تعرض مسرحية "ذاكرة اعتقال" معاناة المعتقلين في سجون النظام السابق، وتسلط الضوء على الانتهاكات التي تعرضوا لها خلال سنوات القمع والتغييب، وتتعمق في التجربة الإنسانية للمعتقلين. يقدم هذا العمل المسرحي مشاهد مكثفة للصراع بين الحرية والقيد، والأمل واليأس، في بيئة مسرحية بسيطة ولكنها غنية بالمعاني.
بدأت عروض المسرحية في "معرض دمشق الدولي"، ثم انتقلت إلى حلب وإدلب واللاذقية وحماة، وتستمر في تقديم عروضها في مختلف المدن السورية، لتحويل المسرح إلى مساحة لاستحضار الذاكرة وتوثيق المعاناة بأسلوب فني وإنساني.
المعتقلون على الخشبة
قبل بدء العرض، يملأ صوت قطرات الماء المتساقطة بشكل متزامن ومزعج خشبة المسرح، مع جدران سوداء، وفي المنتصف يظهر حبل المشنقة، وعلى اليسار ضوء خافت، بالإضافة إلى برميل ماء عكر ومتسخ، ودولابين معلقين يستخدمان لتعذيب السجناء. يبدأ العرض بأصوات مظاهرات تطالب بالحرية، وصوت إطلاق نار، وعلى إثره يُستشهد شابان، ويبقيان على يمين ويسار مقدمة المسرح طيلة العرض، بينما يُترك داخل الزنزانة سجين، وهو الراوي الرئيسي للعرض المسرحي.
المعتقل، الذي يؤدي دوره محمود زكور، لا يمثل شخصًا واحدًا، بل هو تجسيد رمزي لآلاف السوريين الذين فقدوا حريتهم وتركوا خلفهم عائلات تنتظر عودتهم. وفي المشهد الأخير، يهرب السجان قبل إعلان التحرير، في إشارة إلى انتصار إرادة الإنسان على القمع، وانكسار الخوف أمام صوت الحرية.
رمزية الموت والحياة
اعتمدت المسرحية على الرموز البصرية بشكل كبير، حيث رافقت المعتقل طوال العرض جثتان صامتتان داخل الزنزانة، تمثلان ضحايا القمع والمغيبين الذين لم يُعرف مصيرهم، في تجسيد للموت المستمر الذي يعيشه المعتقلون حتى بعد خروجهم من السجن. الصمت في هذا المشهد لم يكن فراغًا، بل لغة أخرى تعبر عن العجز، وعن الموت المؤجل الذي يعيشه السوري حين يُسلب صوته وكرامته.
أداء يلامس الجرح
قدم محمود زكور أداءً مميزًا جسد فيه تجربة الاعتقال بكل تفاصيلها الجسدية والنفسية، متنقلًا بين الانكسار والتمرد، وبين الألم والرجاء. وشارك في العمل الذي أخرجه محمد مروان إدلبي، كل من محمد ملقي، بدور السجان، إلى جانب فاطمة عبد وثناء صقر، اللتين أضافتا بعدًا إنسانيًا للمشاهد عبر أدوار تعكس الحنين والأمومة والفقد. جمع العمل ممثلين من حماة وحلب وإدلب واللاذقية، في مبادرة أرادها المخرج لتكون مشروعًا وطنيًا يوحد الفنانين حول قضية إنسانية جامعة. أما تصميم المكياج فكان من تنفيذ عبد الغني صيادي، بينما تولى عمار جراح الإضاءة والصوت التي لعبت دورًا سرديًا مهمًا في إبراز التوترات الداخلية للشخصيات.
صرخة فنية
أكد صناع العمل المسرحي أن "ذاكرة اعتقال" ليست مجرد عمل فني، بل رسالة وفاء لتضحيات المعتقلين والمغيبين، ومحاولة لتثبيت حضورهم في الذاكرة الجماعية للسوريين. المسرحية ليست مجرد عرض على الخشبة، بل صرخة فنية في وجه النسيان، ووثيقة إنسانية تحفظ ما تبقى من ذاكرة السوريين خلف القضبان. تأتي "ذاكرة اعتقال" لتذكّر بأن الذاكرة لا تُمحى، وأن الفن يستطيع أن يروي ما عجزت عنه التقارير والشهادات.