عنب بلدي – عمر علاء الدين
أبدت الحكومة السورية اهتمامًا ملحوظًا بملف الموقوفين السوريين في لبنان، وذلك خلال المباحثات مع الحكومة والمسؤولين اللبنانيين. وقد كان ملف الموقوفين في سجن "رومية" حاضرًا بقوة خلال زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى بيروت في 10 تشرين الأول الحالي، وكذلك خلال زيارة وزير العدل، مظهر الويس، بعدها بأربعة أيام.
هذا الاهتمام السوري يقابله اهتمام لبناني مماثل، إلا أنه يخضع لمعادلات داخلية معقدة، يظهر فيها تأثير "حزب الله" وتحالفه مع النظام السوري السابق في هذا الملف.
إقحام الملف في اللعبة السياسية اللبنانية
ذكرت أربعة مصادر لبنانية، شملت حقوقيين ومصدرًا قضائيًا وآخر حزبيًا، لعنب بلدي، أن وزير العدل اللبناني، عادل نصار، يعرقل هذا الملف لأسباب حزبية تتعلق بسعيه للحصول على دعم "حزب الله" في الانتخابات النيابية المتوقعة في أيار 2026، وذلك لمصلحة حزب "الكتائب" اللبناني الذي ينتمي إليه الوزير.
وأوضح مصدر حقوقي لبناني، مطلع على الملف، أن وزير العدل اللبناني أظهر تعنتًا من خلال دراسة كل ملف على حدة، بينما كان وزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، يفضل تسليم جميع السجناء السوريين إلى بلدهم. وأشار المصدر إلى أن هذا الخلاف بين الوزيرين دفع برئيس الحكومة اللبنانية، نواف سلام، إلى تشكيل لجنة برئاسة نائب رئيس الحكومة، طارق متري.
وعزا المصدر موقف وزير العدل اللبناني إلى ما وصفه بـ"تبييض وجه مع (حزب الله)"، مشيرًا إلى أنه طلب من سوريا تسليم سجناء من "حزب الله" إلى لبنان، مقابل تسهيل حلحلة هذا الملف. وأكد مصدر حقوقي آخر أن الأمر مرتبط جزئيًا بالتحضير للانتخابات النيابية اللبنانية، حيث أن موضوع "الدفاع" عن الجيش اللبناني كان دائمًا "مادة دسمة في الانتخابات"، خاصة بين الأحزاب المسيحية المتنافسة. وهذا ما يدفع وزير العدل اللبناني، وحزبه "الكتائب"، إلى الاستثمار في هذا الملف، ومعارضة إطلاق سراح المعتقلين السوريين على خلفية الثورة، بحجة أنهم "قاتلوا الجيش اللبناني"، وفقًا لما قاله المصدر لعنب بلدي.
وكان وزير العدل اللبناني، عادل نصار، قد صرح لقناة "الحدث" في أيلول الماضي، أن الرئيس السوري، أحمد الشرع، وخلال لقائه بالرئيس اللبناني، جوزيف عون، في الدوحة، استبعد البحث في مسألة موقوفي "حزب الله" في سوريا، مؤكدًا إمكانية التوصل إلى اتفاقية مع دمشق بشأن المعتقلين في السجون اللبنانية والسورية. وأشار نصار في حديثه إلى أن "الدولة اللبنانية معنية بأي معتقل لبناني في السجون السورية".
في المقابل، نفى مصدر رفيع المستوى في حزب "الكتائب" اللبناني، ومقرب من وزير العدل، عادل نصار، عرقلة الوزير للملف، معتبرًا أن الوزير معروف بمواقفه من "حزب الله". وقال المصدر، لعنب بلدي، إن وزير العدل يتعامل مع الملف بـ"مقاربة موضوعية وحقوقية"، وأن اجتماعه مع وزير العدل السوري كان "مثمرًا جدًا"، مضيفًا أن "الوزير نصار معروف بمواقفه ضد (حزب الله)". وبخصوص تدخل حزب "الكتائب" في الملف، قال المصدر، إن "الحزب لا علاقة له بهذا الملف، ولا يتدخل في الشؤون القضائية". وأشار المصدر المقرب من وزارة العدل إلى أن موضوع تسليم المسجونين السوريين "غير مرتبط بالانتخابات النيابية ولا يؤثر فيها".
لكن المصدرين الحقوقيين اللذين تواصلت معهما عنب بلدي، ذكرا أن الحسابات الانتخابية المعقدة، تضع "الكتائب" و"حزب الله" في تقاطعات، قد لا تصل إلى تحالفات، لمواجهة حزب "القوات".
عرقلة "الخصوم" مع اقتراب "موسم المزايدات"
الكاتبة الصحفية والناشطة السورية-اللبنانية عالية منصور، اعتبرت أن الدولة السورية ممثلة بالرئيس السوري، أحمد الشرع، ووزير الخارجية، أسعد الشيباني، تبذل "قصارى جهدها" في معالجة ملف المعتقلين السوريين في لبنان. وفي حديث إلى عنب بلدي، اعتبرت الكاتبة السورية أن رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، ونائبه طارق متري، يتفهمان الموقف السوري ويبذلان جهودًا حثيثة في هذا الصدد، لكنها ترى أن لبنان "حالة خاصة" بسبب تركيبته، فقد تأتي أحيانًا العرقلة من داخل الحكومة رغم موقفها "الإيجابي".
ويناقش الجانبان، بحسب منصور، اتفاقية تفضي إلى خروج العدد الأكبر من السوريين. وقالت إن الملف بالأصل هو سياسي، حيث جرى استغلال القضاء اللبناني، فيه من حلفاء الأسد وتحديدًا "حزب الله"، لـ"فبركة التهم للمعارضين السوريين وزجهم بالسجون". وفي تعليقها على المعلومات التي حصلت عليها عنب بلدي، اعتبرت أن من اللافت أن من يحاول "عرقلة" خروج المعتقلين هم "بعض خصوم الأسد و(حزب الله)" لأسباب "طائفية"، وخصوصًا أن الانتخابات النيابية في لبنان قد اقتربت و"اقترب معها موسم المزايدات"، على حد تعبيرها.
سجن "رومية".. مأساة إنسانية
وصف وزير العدل السوري، مظهر الويس، ما يجري بحق الموقوفين السوريين بـ"المأساة الإنسانية"، معتبرًا أن زيارة الوفد الذي ترأسه قبل أيام إلى لبنان تمثل "بداية جديدة في العلاقات بين البلدين الجارين"، وأن ملف الموقوفين السوريين يُعد أولوية قصوى، وأن هناك لقاءات مرتقبة لإنهاء "هذه المأساة الإنسانية".
وقدّرت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" عدد المحتجزين بحوالي 2000 شخص، من بينهم نحو 190 معتقلًا على خلفية مشاركتهم في الثورة السورية. يقع سجن "رومية" شمال شرقي بيروت، ويُعد الأكبر في لبنان، ويضم أكثر من 4000 نزيل رغم أن طاقته الاستيعابية لا تتجاوز 1200، ما يسبب اكتظاظًا وسوء خدمات. ويعاني معتقلون سوريون فيه من نقص الرعاية الصحية وسوء التغذية وتأخر المحاكمات. خلال العامين الماضيين، نفذ سوريون عدة إضرابات عن الطعام احتجاجًا على الأوضاع في السجن وظروف الاحتجاز.
المحامي اللبناني ومدير مؤسسة "لايف" المعنية بالتنمية الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، نبيل الحلبي، قال إن الوضع الانساني في السجن "سيئ للغاية" بسبب توقف الدولة اللبنانية عن تقديم الرعاية الصحية والطبية اللازمة للسجون منذ أكثر من ستة أعوام. وتسبب هذا، وفق ما قاله الحلبي لعنب بلدي، بوفيات داخل السجون على مدار السنوات الست، فضلًا عن أن أكثر من 97% من السجناء السوريين عوائلهم تحت "خط الفقر"، ولا يستطيعون إمداد أبنائهم داخل السجون بالأغذية والأدوية. وأضاف، "لولا تدخل بعض جمعيات الرعاية الاجتماعية لكان الوضع أكثر سوءًا".
وأما عن الوضع القانوني للسجناء، فأكد المحامي أن أغلبية هؤلاء السجناء، رغم طول مدة توقيفهم، لم يصدر بحقهم أي أحكام قضائية. وأشار الحلبي إلى أن القضاء العسكري اللبناني وجه للسجناء تهم "الانتماء إلى منظمات إرهابية" أو "دعم الإرهاب"، معتبرًا إياها اتهامات "لا تستند إلى وقائع يمكن أن تشكل إدانة قانونية". ووفق الحلبي، جرى تغليظ هذه الاتهامات ضدهم بناء على "نضال هؤلاء ضد نظام بشار الأسد ومعارضتهم لتدخل (حزب الله) في سوريا".
ولدى الحكومة اللبنانية "نية"، وفق المحامي اللبناني نبيل الحلبي، للإفراج عن بعض هؤلاء المتهمين بالانتماء إلى "الجيش السوري الحر" و"جبهة النصرة" أو "هيئة تحرير الشام"، والتي كانت المحكمة العسكرية في لبنان تصنفها على أنها "منظمات إرهابية".
معارضة من "حزب الله"
صحيفة "الأخبار" اللبنانية المعروفة بتوجهها الداعم لـ"حزب الله" اللبناني وإيران في لبنان، علقت في افتتاحيتها المنشورة في 11 من تشرين الأول الحالي، على زيارة الشيباني إلى بيروت، واصفة إياها بـ"زيارة علاقات عامة". وبشأن الموقوفين، قالت الصحيفة، إن الاهتمام السوري ينحصر بتسلّم السجناء السوريين في السجون اللبنانية، وعلى رأسهم أعضاء في "تنظيمات مصنفة إرهابية في لبنان" نفذوا عمليات على الأراضي اللبنانية، بالإضافة إلى أسماء سجناء لبنانيين ناصروا "الثورة السورية" و"جبهة النصرة" خلال السنوات الماضية وقاموا بأعمال أمنية.
وذكرت الصحيفة أن لبنان يطالب بالإضافة إلى حل الأزمات المزمنة كالنازحين والحدود، بالحصول على معلومات ووثائق من الأجهزة السورية السابقة عن عمليات الاغتيال التي حصلت في لبنان خلال العقود الماضية، وحتى خلال السنوات التي تلت انسحاب سوريا من لبنان، ومعلومات عن مفقودين لبنانيين.
إذا كان الأمر خاضعًا لإرادة "حزب الله"، فلا شيء يمنع ذوي الضحايا السوريين من الادعاء على قادة عسكريين وأمنيين لبنانيين تورطوا بقتل مواطنين سوريين أو التسبب بمقتلهم، فتدخل عندئذ العلاقات اللبنانية- السورية في دائرة مقفلة.
نبيل الحلبي
محامٍ لبناني ومدافع عن حقوق الإنسان
مسألة الإفراج عن "إرهابيين لبنانيين أو سوريين أو أجانب"، شاركوا في قتل لبنانيين مدنيين وعسكريين والقيام بـ"أعمال إرهابية"، وفق الصحيفة، تأخذ "أبعادًا متعددة" داخل الجسم القضائي والسياسي اللبناني، إذ إن أقصى ما يمكن أن يبرره لبنان في حالة "العفو السياسي" أو قرار التسليم لدمشق، أن يكون هؤلاء غير محكوم عليهم أو مُلاحقين بدعاوى شخصية من أهالي الضحايا والمتضررين، وهو ما لا ينطبق على العديد من هؤلاء الذين تطالب بهم الإدارة السورية.
المحامي اللبناني نبيل الحلبي، أكد أن "حزب الله" يرفض تسليم الموقوفين السوريين في لبنان، لا سيما من جرى توقيفهم على خلفية أمنية أو سياسية، علمًا أنه كان سابقًا يطالب بتسليمهم لمخابرات نظام الأسد لتتم تصفيتهم مرات عديدة. ويرى مدير مؤسسة "لايف"، أن الحل هو "تبييض السجون اللبنانية من السوريين وغير السوريين الذين ارتبط توقيفهم بأحداث الثورة السورية، بما “أن عهدًا جديدًا بدأ في سوريا ويقال إنه بدأ بلبنان”، على حد تعبيره.
وردًا على رواية الحزب بشأن الموقوفين، قال الحلبي، إنه لا يمكن لأحد في لبنان التذرع بقتال الجيش اللبناني من أجل تبرير احتجاز عشرات السوريين، لأن الجميع يعلم من كان يدير الآلة العسكرية والأمنية في لبنان ضد اللاجئين السويين المعارضين على مدار 14 عامًا، والتي كانت تسبقها "أعمال تحريض وتشويه وعنصرية".
ويرى المحامي المدافع عن حقوق الإنسان، أنه في حال خضعت قضية الموقوفين لإرادة "حزب الله" وروايته، "فلا شيء يمنع ذوي الضحايا السوريين من الادعاء على قادة عسكريين وأمنيين لبنانيين تورطوا بقتل مواطنين سوريين أو التسبب بمقتلهم". وهذا ما يؤدي، على حد تعبيره، إلى دخول العلاقات اللبنانية- السورية في دائرة مقفلة.
مسؤولية أخلاقية
في 10 من تشرين الأول الحالي، أصدر عدد من السجناء في لبنان بيانًا طالبوا فيه بحقوقهم وحسم قضاياهم متوعدين بخطوات تصعيدية لاحقة. المطالب بحسب البيان:
- تحديد سنوات حكمَي المؤبد والإعدام.
- تقليص السنة السجنية استثنائيًا إلى ستة أشهر.
- إخلاء سبيل كل موقوف تجاوزت مدة توقيفه العشر سنوات ولا يزال بلا محاكمة.
- إقرار إلزامية دمج الأحكام.
- تسليم جميع السجناء السوريين إلى بلادهم.
وهدد السجناء بأنه في حال جرى تجاهل "هذا النداء الإنساني الأخير"، فإنهم "مقبلون قريبًا في جميع السجون على خطوات تصعيدية مشروعة".