الإثنين, 29 سبتمبر 2025 12:41 PM

من منطق اليقين إلى النسبية: تحولات في خطاب السلطة والمعارضة في سوريا

من منطق اليقين إلى النسبية: تحولات في خطاب السلطة والمعارضة في سوريا

حضور الرئيس السوري، أحمد الشرع، اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومشاركته في لقاء مؤسسة "كونكورديا"، بالإضافة إلى حواره عبر برنامج "60 دقيقة" على قناة أمريكية كبرى، لم تكن مجرد إشارات لعودة سوريا إلى الساحة الدولية بعد عزلة. بل حملت دلالات أعمق حول تغير العقلية التي تحكم مفهوم السلطة في سوريا.

ظهر الشرع كرجل دولة عادي بين القادة، لا كبطل استثنائي أو رمز مقدس. بدت بلاده جزءًا من قضايا عالمية، لا مركزًا تدور حوله الدنيا كما أوهم النظام السابق شعبه. لا مؤامرة كونية، ولا تحالفات دولية للقضاء على النظام. رئيس يلتقي ببعض القادة ويتجاهل آخرين، وربما يمر في قاعة الجمعية العامة قادة وموظفون لا يعرفون اسمه. هذه التفاصيل تقوض أوهامًا كبيرة. فالرئيس يملك مقعدًا ووقتًا محددًا للخطاب، ويستأذن من رئيس دولة أخرى أمام الكاميرات كي لا يتأخر عن موعد إلقاء خطابه. حتى أن "الفيزا" الممنوحة له لم تتجاوز أيامًا قليلة. وهذا ليس خاصًا بالشرع، فالرئيس الفرنسي كاد أن يتأخر عن الجمعية العامة بسبب أزمة سير، مما اضطره للمشي. حدث شيء مشابه مع أردوغان. السياسة الدولية لا تمنح امتيازات مطلقة، بل تضع الجميع ضمن قواعد عامة.

يُحسب للشرع استخدامه لغة جديدة في حواره، مع كلمات مثل "أعتقد" و"برأيي" و"أرى". هذه المفردات تنقل الخطاب السياسي من اليقين المطلق إلى النسبية. اعتراف الرئيس بحدوده وأن رأيه ليس الحقيقة النهائية، بل وجهة نظر قابلة للنقاش. ومع هذه اللغة جاء الإقرار بعدم الكمال. لم يعد المشهد يدار بعقلية العصمة المطلقة، بل باعتراف علني بأن الدولة تخطئ، وأن الأخطاء جزء من التجربة السياسية.

لكن هذا التحول لا يكتمل دون تحول المعارضة، التي لا تزال أسيرة خطاب قديم يرى نفسه ممثلًا للشعب كله. لقد كانت فعلًا أكثرية في سنوات سابقة، تجابه نظامًا عائليًا مجرمًا دون شعبية تذكر، لكنها اليوم أقلية، أمام سلطة لها امتدادها الواسع في الشارع السوري، وهذا لا يمس شرعيتها أبدًا، ولا يحكم على رؤيتها، لكنه يحدد موقعها. الاستمرار في ادعاء التحدث باسم الجميع يعيد إنتاج لغة سابقة طوتها الأحداث، على المعارضة أن تعترف بأنها أقلية في الشارع، مرة أخرى هذا ليس عيبًا أو تقليلًا من دورها أو استراتيجيتها، بل يجب عليها، ومن مصلحتها هي أولًا، أن تبني خطابها على هذا الأساس، وإلا ستبقى خارج أي إمكانية للتطور، أما الذين انتقلوا حديثًا من ضفة النظام إلى العمل المعارض، وأقصد هنا أنصار الأسد الساقط، فلا يزال أمامهم الكثير ليتعلموا آليات المعارضة، فهي ليست تكرارًا معكوسًا لخطاب السلطة، بل ممارسة تقوم على التعدد والاعتراف بالاختلاف.

التحدي الأكبر أمام المعارضة هو التخلي عن خطابها الذي يدعي امتلاك الحقيقة ويمارس شيطنة الآخر. فالمشهد أكثر تعقيدًا: مناطق "الإدارة الذاتية" ليست جنة الديمقراطية كما يُصورها مؤيدوها، فهناك اعتقالات وهناك قمع، بل وقتل، وما يجري في السويداء يكشف عن أخطاء فادحة لا تجد أي نقاش جدّي بين أنصار هذه التجربة، تجاهل هذه الأخطاء لا يمنع الآخرين من رؤيتها، بل يفضح عجز الخطاب السياسي عن مواجهة نفسه بصدق.

نحن كسوريين مقبلون على مرحلة جديدة تستلزم قدرًا كبيرًا من التأقلم، ليس فقط مع تبدل علاقة السلطة بالمجتمع، بل مع تغير العلاقات بين الناس أنفسهم، المهتمين بالشأن السياسي خاصة. وقد عبّرت عن ذلك وإن بشكل فج ناشطة سورية، كانت معارضة لنظام الأسد منذ عام 2011، حين أعلنت استعدادها للوقوف مع أنصار النظام البائد في معسكر واحد ضد السلطة الحالية. قد يبدو هذا الموقف متطرفًا، بل وإشكاليًا إلى حد كبير، لكنه يكشف عن تبدل طرق الاصطفاف السياسي، والحاجة إلى مرونة أكبر في التعامل مع هذه الحقيقة. فالعالم اليوم لا يتيح لأي طرف أن يتمسك بخطاب مطلق أو يدعي امتلاك الحقيقة.

إن القدرة على الاعتراف بالحدود وبالأخطاء وبحق الآخر في الاختلاف هي الشرط الضروري لولادة عقلية جديدة، أكثر واقعية، وأكثر استعدادًا لمواجهة المستقبل. السلطة أخذت خطوات يبدو أنها مطمئنة، على الأقل حتى الآن، هنا علينا كمجتمع مهمة مزدوجة، من جهة العمل على إصلاح الصوت المعارض، ومن جهة أخرى دفع السلطة والضغط عليها أكثر من أجل إحراز تقدم أكبر في هذه التغيرات. هي مهمة شاقة جدًا بالتأكيد، لكن بالنهاية لا بد منها.

مشاركة المقال: