يقول «شوبنهاور»: «إن حس السخرية هو الصفة الإلهية الوحيدة الموجودة في الإنسان»، بينما يرى «دوستويفسكي» أن السخرية هي الملاذ الأخير للشعوب. أما «سينيكا»، فيعتبر السخرية من الحياة سلوكًا أكثر تحضرًا من الانشغال بالندب. وهذا ينسجم مع رؤية الكوميدي «ريكي جريفيز» الذي يرى أن السخرية من الذات والتهكم على تراجيديا الآخرين والكوميديا السوداء تجعل الحياة قابلة للعيش.
فالحياة أقصر من أن نأخذها على محمل الجد، ومن هنا يصعب القول بأن أهاجي الحطيئة لم تكن وليدة الظرف الموضوعي في تاريخ الأدب، بل كانت وليدة العبقرية والتكوين الشخصي للشاعر الذي تعلم نظم الشعر وامتلك رؤية جمالية خاصة به تجلت في كل ما نظمه. فالشعر هو ابن اللحظة والإحساس، وحصيلة تفاعل بين الذات المبدعة والعالم المحيط.
لا يمكننا تجاهل العوامل الموضوعية التي اكتنفت ولادة الحطيئة ونشأته، لكنها تبقى ضئيلة مقارنة بعبقريته الفردية. فالأغلبية تتعايش مع ظروفها المتدنية، وتسعى لتغييرها بوسائل سياسية أو فردية. لكن الذين حولوا ألمهم إلى فن لاذع مثل الحطيئة، قلة نادرة.
تصوير ذوي العاهات الاجتماعية وتشريح الآفات المجتمعية كان موضوعًا للإبداع الفني عبر العصور. الكوميديا الإغريقية القديمة انتشلت العيوب البشرية ووضعتها تحت مجهر الضحك والنقد، ثم ورثت الفنون السردية والدرامية هذا المشعل، دون أن ننسى الكاريكاتير الساخر.
في تراثنا الثقافي العربي، احتل الهجاء مساحة متميزة. فالقول بوجود قبائل وأشخاص ذهب فن الهجاء بكرامتهم يستند إلى سياق ثقافي واجتماعي ثابت. فلنتذكر مصير «بني نمير» تحت سهام «جرير»، أو مشهد «الزبرقان بن بدر» وهو يستمع إلى الحطيئة يهجوه. وكذلك محنة شخص اسمه «تسنيم» في أحد الأبيات لبشار بن برد، بل إن الهجاء وصل إلى ذروة السلطة، فلم يسلم منه خلفاء كبار في العصرين الأموي والعباسي، كما حدث عندما سلط «دعبل الخزاعي» سهام لسانه على الخليفة «المعتصم» نفسه.
لماذا يزدهر الهجاء؟ ربما لأن المثالب والمخازي والآفات الاجتماعية هي الأكثر شيوعًا، ما يوفر مادة خصبة للساخرين. لقد أدرك الشاعر «عبدان» هذه الحقيقة عندما فضل الهجاء على المديح. هذه الرؤية تضعنا أمام سؤال: أي الفعلين أكثر إثمًا؟ أن تمدح باطلًا أم أن تهجو بحق؟ وعلى ما يروي مانويل دي بيدرولو (1918-1990)؛ فإنّ “السخرية تزيل السموم من المخ وتحمي التوازن النفسي، والسخرية كذلك صمّام أمان يمنع المِرجَل من الانفجار”، ومن ثمّ فالهجاء، في هذه الحالة، يتحول من مجرد نزعة شخصية للإيذاء إلى فعل مقاومة بالكلمة، إلى نوع من التطهير الاجتماعي (الكاثارسيس) الذي تمارسه المأساة الإغريقية، لكنه هنا يأتي عبر آليات السخرية والتفكيك.
يبقى الهجاء فنًا ذا حدين، فهو سلاح في وجه الظلم والانحراف، وأداة للابتزاز والإفساد. الفارق هو الجوهر الأخلاقي والغاية الجمالية، فالهجاء الفني الراقي لا يهدف إلى الإيذاء المجاني، بل إلى النقد البناء. إنه يحفر في الأعماق ليستخرج القبيح ويعرضه للضوء، أملاً في أن يثير ذلك نوعاً من الاشمئزاز الذاتي أو الجماعي الذي قد يقود إلى التغيير.
في الختام، يمكن النظر إلى فن الهجاء كتعبير عن عبقرية فردية، وكرد فعل على قهر موضوعي. إنه صوت المقهور الذي امتلك سلاح الكلمة، والعبقري الذي وجد في عيوب مجتمعه مادة خصبة لإبداعه. وهو شهادة على أن الفن سلاح فعال في معركة الإنسان من أجل الحقيقة والكرامة.
وبالعودة للشاعر الهجّاء الذي حثنا لكتابة المقال، أبو مُلَيْكَة جَرْوَلُ بنُ أَوْسِ بنِ مالِكٍ المعروف بالحُطَيْئَةِ عاش في القرن السادس الميلادي، وتوفي سنة (674)، وهو شاعر عربي مخضرم من أهل نجد وكان أسلم في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ارتدًّ، ثم أسرع وعاد إلى الإسلام، وقيل إنه صحابي من رواة الشعر (ولد لدى بني عبس من أَمةٍ اسمها (الضراء) فشبّ محروماً مظلوماً، لا يجد مدداً من أهله ولا سنداً، من قومه، وكما تروي سيرته فقد اضطر إلى قرض الشعر ليجلب به القوت، ويدفع به العدوان، وينتقم به لنفسه من بيئةٍ ظلمته، ولعل هذا هو السبب في أنه اشتد في هجاء الناس، ولم يكن يسلم أحدٌ من لسانه فقد هجا أمّه وأباه وهجا نفسه كذلك. اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية