في خضم مرحلة انتقالية محفوفة بالتحديات والأخطاء، يتأرجح المسار الرسمي للعدالة الانتقالية في سوريا بين التوظيف السياسي والانتقائية، وبين إرث نظام شمولي رسخ الإفلات من العقاب. هذا بالإضافة إلى استمرار أعمال العنف والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي لم تتوقف حتى بعد فرار الأسد وانهيار منظومته الأمنية، والتي امتدت من الساحل إلى السويداء.
من المؤكد أن العدالة الانتقالية تمثل لحظة تأسيسية لسوريا الجديدة، تقوم على بناء دولة تحمي حقوق الإنسان وتحقق السلام والمصالحة الوطنية. وأي انحراف أو توظيف سياسي لهذا المسار سينعكس سلبًا على العدالة وسيادة القانون ومجتمعات الضحايا، وسيغرق البلاد في دوامة من العنف والثأر والإفلات من العقاب.
بالنظر إلى السياسات التي اتبعتها السلطة الانتقالية، بدءًا من شكلية مؤتمر الحوار الوطني، وتجاهل الحاجة إلى مؤتمر وطني تأسيسي، وهندسة إعلان دستوري كرس سلطة مطلقة للرئيس الانتقالي، وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وسعي السلطة وتيارها السياسي للهيمنة على المؤسسات، وتعيين حاكم فعلي في كل مؤسسة ومنطقة، يثور التساؤل حول استقلالية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية.
هل ستوسع الهيئة إطار عملها ليشمل انتهاكات جميع الأطراف، بما في ذلك الانتهاكات التي حصلت بعد سقوط النظام؟ المرسوم الرئاسي "20" حدد مهامها في كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار في حدود الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام فقط، وهو ما يعد تمييزًا بين الضحايا ومخالفة للمادة "10" من الإعلان الدستوري التي تنص على المساواة أمام القانون، والمادة "49" التي تنص على إحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية، والمادة "12" التي تصون حقوق الإنسان.
في السياق ذاته، تجاوزت اللجنة العليا للسلم الأهلي دور الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية عندما "أعطت الأمان" لشخصيات مثل فادي صقر، وبررت وجودهم في مسار السلم الأهلي بحجة أهمية دورهم في "تفكيك العقد وحل المشكلات"، وهو تصريح ذكره حسن صوفان عضو اللجنة في المؤتمر الصحفي الذي شارك فيه نور الدين البابا المتحدث باسم وزارة الداخلية.
استمر تجاهل التنسيق مع الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية مع بيان وزارة العدل في 30 تموز الماضي، والذي أعلن فيه النائب العام عن بدء دراسة الضبوط والوثائق المقدمة، وبناء عليها تم تحريك دعوى حق عام بحق كل من: عاطف نجيب وبدر الدين حسون ومحمد الشعار وإبراهيم حويجة، وإحالتهم إلى قاضي التحقيق المختص. كما أعلنت الوزارة عن تسلم ملفات بعض الموقوفين على خلفية ارتكاب جرائم وانتهاكات، وأشارت إلى "بناء أرضية مؤسساتية ملائمة لإصلاح القضاء" واستبعاد القضاة المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان.
بثت وزارة العدل فيديو وصفته قناة "الجزيرة" بـ"الترويجي"، يظهر جانبًا من التحقيقات الجارية مع الأسماء المذكورة أعلاه. مع العلم بأن القانون السوري لا يتضمن نصوصًا تتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وفق نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي فإن التهم الموجهة لهم لا ترتكز على فداحة الجرم، بل تمت قولبتها وحصرها وفق جرائم منصوص عليها في القانون السوري، كالقتل العمد، والتعذيب المفضي إلى الموت، والاعتداء الذي يستهدف إثارة الحرب الأهلية، والتحريض والاشتراك والتدخل في عمليات قتل، الأمر الذي سينعكس سلبًا على مجمل عمليات العدالة الانتقالية وركائزها.
بناءً على ما سبق، فإن السلطة الانتقالية توظف العدالة الانتقالية بما يخدم سياساتها والضغوط التي تتعرض لها، وتتعامل معها كأداة لتخفيف الضغوط عليها، لكن ذلك يعرض مسار العدالة الانتقالية للفشل ويجدد النزاع ويديم حالة الإفلات من العقاب ويفشل المرحلة الانتقالية.