عنب بلدي – محمد كاخي
ساد الهدوء في محافظة السويداء بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه الحكومة السورية مع الفصائل المسلحة في المحافظة، بضمانات إسرائيلية-أمريكية، في 16 من تموز الماضي. وقد وصفت مصادر دبلوماسية لوكالة “رويترز” هذه المعركة بأنها ناتجة عن سوء فهم للموقف الإسرائيلي والأمريكي من الوجود العسكري للحكومة السورية في السويداء جنوبي سوريا.
شمل الاتفاق انسحاب مقاتلي العشائر من المناطق التي سيطروا عليها شمال وغرب السويداء، ونشر حواجز الأمن الداخلي والشرطة من أبناء المحافظة في جميع أنحاء المدينة، وتأمين طريق دمشق-السويداء من قبل الدولة، وضمان سلامة المسافرين. وتتشابه هذه البنود مع ما تم الاتفاق عليه في 1 من أيار الماضي بين الحكومة السورية وممثلين عن الطائفة الدرزية.
تهدئة مؤقتة أم تأجيل للانفجار؟
حققت الحكومة السورية ما يمكن وصفه بـ “نجاح تكتيكي” في احتواء الوضع المتأزم جنوبي سوريا، وذلك من خلال تثبيت وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات، وتأمين خروج المدنيين، وتشكيل لجنة لتقصي الحقائق، والتوعد بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات بغض النظر عن الجهة التي يتبعون لها. ومع ذلك، يرى محللون أن هذا النجاح لم يرافقه خطوات ملموسة لمعالجة جذور الأزمة.
يعتبر الباحث السياسي نادر الخليل أن تعامل الحكومة مع أزمة السويداء يمثل نجاحًا تكتيكيًا مؤقتًا ونسبيًا أكثر منه حلًا جذريًا، حيث نجحت الحكومة في إدخال قوافل المساعدات وإيقاف الاشتباكات المباشرة، لكنها فشلت في استعادة السيطرة الكاملة على المؤسسات الخدمية والأمنية، إذ لا تزال جماعات وأشخاص مثل حكمت الهجري يمنعون دخول الفرق الحكومية ويسيطرون على توزيع المساعدات.
وفي حديث إلى عنب بلدي، اعتبر الخليل أن الاتفاق الحالي هش وقابل للانهيار، خاصة مع ارتفاع الأصوات المطالبة بالحكم الذاتي في المنطقة، واستمرار الدعم الإسرائيلي للهجري، واستمرار الاستقطاب المجتمعي المتمثل بالانقسام بين الدروز والعشائر السنية “المدعومة” من الحكومة.
في المقابل، يرى الباحث السياسي لؤي صافي أن الأزمة في السويداء مركبة، تتداخل فيها مخاوف أبناء السويداء من الخضوع لحكومة مركزية تتجاهل خصوصياتهم الثقافية والدينية، وطموحات فصائل مسلحة مدعومة من الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز المراجع الدينية الدرزية.
وقال صافي في حديث إلى عنب بلدي، إنه بالرغم من تعاطي الحكومة السورية منذ البداية مع محافظة السويداء بمقاربة النفس الطويل والرغبة في إنهاء الخلافات دون الدخول في صراع عسكري مفتوح، فإن مساعيها في الوصول إلى حل سياسي اصطدمت بتعنّت فريق الهجري وفصائله المسلحة، ورفضهم كل أشكال التعاون معها من جهة، وعجزها عن ضبط بعض الفصائل التابعة لها، التي مارست تجاوزات قانونية وأخلاقية خلال عمليات فك الاشتباكات المسلحة بين مقاتلي الدروز والعشائر العربية من جهة أخرى.
من جانبه، يرى الباحث في مركز “عمران” أيمن الدسوقي أن الوضع في السويداء هش وقابل للانفجار مجددًا، طالما أن الأطراف المعنية لم تصل إلى أهدافها المتناقضة، إلى جانب منظور كل طرف للصراع بأنه صفري، ما يعقد الموقفين الميداني والسياسي.
ووفقًا لما قاله الدسوقي لعنب بلدي، فإنه لا يعتقد بوجود تصعيد عسكري على نطاق واسع في المدى القريب، لكنه لا يستبعد اندلاع اشتباكات أو انتهاكات لوقف إطلاق النار في محاولة من كل طرف لتثبيت مواقعه الميدانية وترسيخ مكاسبه أو اختبار الطرف الثاني.
ماذا تريد إسرائيل؟
في 6 من آب الحالي، صرح أحد قادة “غرفة العمليات العسكرية” في السويداء لصحيفة “الشرق الأوسط” بوجود تنسيق مع الطرفين الأمريكي والإسرائيلي من أجل حماية دولية، مشددًا على “العلاقة الطيبة” مع إسرائيل، معتبرًا إياها “لاعبًا مهمًا في المنطقة”، وأنها لعبت “دورًا فعالًا في رد الهجمات عن السويداء”، وأنهم يطلبون حمايتها.
وفي هذا السياق، يرى الباحث السياسي لؤي صافي أن إسرائيل تسعى إلى إثارة الخلافات الطائفية بين الأقلية الدرزية والأغلبية السنية، بهدف إبقاء سوريا ضعيفة ومفككة لكي تهيمن عليها بسهولة، وتحويل منطقة المشرق إلى دول دينية طائفية تبرر وجود إسرائيل كدولة دينية تحصر اهتماماتها بالشعب اليهودي.
وأضاف صافي أن إسرائيل ستستمر في تغذية الصراع الطائفي، وستدعم الفصائل التي تطلب منها التدخل ضد حكومة دمشق، وترى في ذلك مدخلًا مهمًا للتوسع داخل الأراضي السورية، كما فعلت في السبعينيات عندما غذت الصراع الطائفي في لبنان، ووقفت إلى جانب قوى مسيحية مارونية في مواجهة الفصائل الفلسطينية وحلفائها من الطوائف اللبنانية الأخرى.
ويرى الباحث السياسي نادر الخليل أن إسرائيل تنتهج استراتيجية ممنهجة لاستثمار المكوّن الدرزي في السويداء، بهدف تكريس نفوذها في الجنوب السوري. ويتجلى هذا في الدعم العسكري المباشر، والغارات التي استهدفت القوات السورية، إلى جانب تسويق إسرائيل نفسها كـ “حامية للأقليات”، عبر خطاب يستند إلى سردية أن الدروز مهددون من قبل الحكومة والعشائر السُنية، ما يبرر تدخلها المستمر، بحسب الخليل.
ويرى أن إسرائيل تستغل تراجع الدور الروسي في الجنوب بعد سقوط النظام السوري، لتعزيز ارتباطها بميليشيات درزية محلية، وتمويلها وربطها بشبكات أمنية إسرائيلية. وإذا كان فشل إسرائيل في استغلال الورقة العلوية في الساحل قد شكّل عائقًا سابقًا، فإن الامتداد الديموغرافي للدروز داخل الأراضي المحتلة (جبل الكرمل) يمنحها اليوم أداة نفوذ أكثر فاعلية، بحسب الباحث الخليل.
وعلى هذا الأساس، تسعى إسرائيل إما لتحويل السويداء إلى منطقة عازلة على غرار جنوبي لبنان لمنع عودة الجيش السوري وتحويلها إلى ورقة ضغط دائمة، أو لفرض تسوية مؤقتة تضمن إدارة محلية درزية مقابل تفاهمات أمنية أوسع. ويرى الخليل أن إسرائيل لن تتخلى عن دعم الفصائل الدرزية لأنها، تاريخيًا، نادرًا ما تفرّط بأوراق الضغط إلا مقابل مكاسب استراتيجية كبرى.
“اللجنة القانونية العليا” تتحدى الحكومة
أعلنت “اللجنة القانونية العليا” في محافظة السويداء، التي سبق أن شكّلها الشيخ حكمت الهجري، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في سوريا، عن تشكيل “مكتب تنفيذي مؤقت” للمحافظة، وتكليف قائد للأمن الداخلي.
وحددت اللجنة مهامها بإدارة شؤون السويداء في جميع القطاعات، والحفاظ على المؤسسات الحكومية العامة والخاصة، ورفع الظلم والضرر عن كاهل المواطنين، ومحاربة الفساد، وفق بيان لها صادر على صفحتها عبر “فيسبوك”.
اعتبر الباحث السياسي لؤي صافي أن هذا الإجراء يعكس الشرخ القائم بين حكومة دمشق والقوى المناوئة لها في السويداء، ويمكن أن يفهم في سياق السعي لإيجاد جهة مركزية لتنظيم الحياة في مدينة السويداء، ولاحتواء الموقف على الحكومة في دمشق أن تبادر إلى إعلان عزمها على تفعيل قانون الإدارة المركزية وإجراء انتخابات بلدية في المحافظة.
ويمكن أن يعطي هذا الإعلان، بحسب صافي، من يريد الحفاظ على علاقة وثيقة مع دمشق من أهل السويداء مدخلًا للوصول إلى تفاهمات مع قسم كبير من المتوجسين حاليًا من دخول قوات تابعة للحكومة المؤقتة، ويسمح ببدء مرحلة بناء ثقة تمهد لعودة السويداء إلى محيطها الطبيعي والتاريخي المتمثل بالدولة السورية.
ويرى الباحث في مركز “عمران” أيمن الدسوقي أن “اللجنة القانونية العليا” تمثل تعبيرًا عن حالة الاستعصاء في المحافظة في ظل غياب التوصل لحل مع الحكومة المركزية في دمشق، وتحديًا لشرعيتها، ومحاولة لفرض أمر واقع حوكمي ومأسسته واستثماره تفاوضيًا.
وفي حديثه لعنب بلدي، قال الدسوقي إن استمرار مناطق النفوذ والحوكمة يحتاج إلى غطاء سياسي وموارد اقتصادية، وترتيبات أمنية، وجهة محلية قادرة على احتكار العنف وإدارة المنطقة، وإن سوريا لم تخرج بعد من معادلة مناطق النفوذ والحوكمة بل يعاد تشكيلها، والسويداء تجلٍّ لذلك، وللخروج منها لا بد من توافق دولي- إقليمي وتوافق محلي.
أفق الحل
على الرغم من تعاطف شرائح واسعة من السوريين مع الرؤية التي تحملها القيادة السورية الجديدة، فإنهم يحملون هواجس ومخاوف زرعها نظام الأسد، وفي مقدمتها الخوف من عودة الدولة المركزة الحصرية التي تتسلط على المجتمع. وهذا يتطلب، بحسب الباحث السياسي لؤي صافي، وعيًا خاصًا لدى القائمين على الإدارة الجديدة، وإدراك أن نجاحهم مرتبط ببناء الثقة مع الشرائح السورية.
كما يتطلب بناء الثقة إخضاع ممارسات السلطة التنفيذية إلى قوانين تشريعية لا إلى مراسيم جمهورية، وتحقيق إنجازات عملية في مجال إعادة الكهرباء والماء والبدء بمشاريع إنتاجية توفر فرص عمل للشباب السوري. ولعل ما سيساعد الحكومة الجديدة على تجاوز كثير من التحديات الحالية والمقبلة، توسيع دائرة مشاركة السوريين في تحمل المسؤوليات العامة، بإعطاء الإدارة المحلية أولوية من خلال العمل على تشكيل مجالس بلدية، ومجالس محافظات يتم اختيارها من أبناء المدن والمحافظات السورية أنفسهم، لا عبر تعيينات من الحكومة المركزية كما جرى تحت حكم الأسد، بحسب صافي.
بينما يذهب الباحث أيمن الدسوقي إلى أننا أمام سيناريوهين، هما الاستعصاء أو اندلاع موجة عنف جديدة. ولا يمكن أن يُبنى الحل في السويداء على فرض رؤى أحادية أو حلول قسرية، بل يتطلب مقاربة واقعية ومرنة، تنطلق من أولوية الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها واستقرارها، وهذا يقتضي الاعتراف بالتنوع السوري كحقيقة يجب إدارتها بوعي، لا تجاهلها أو الالتفاف عليها.
ولا يكون الحل بمحاصصة طائفية، أو شعارات شكلية، بل من خلال عقد اجتماعي جديد يقوم على القبول المتبادل، لا الإقصاء أو الإكراه، ويُفضي إلى صيغة لا مركزية يتم التفاوض عليها سوريًا، تُعيد توزيع الصلاحيات والموارد بشكل عادل، وتمنح المجتمعات المحلية دورًا حقيقيًا في صناعة القرار، دون أن يشكّل ذلك تهديدًا لسلطة الدولة المركزية أو وحدة البلاد. بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق التوازن بين مخاوف المركز من التفكك ومخاوف الأطراف من التهميش، بحسب الدسوقي.
فصائل متناحرة
في 3 من آب الحالي، اختطف نورس عزام، القيادي في “غرفة العمليات العسكرية”، طارق الشوفي، قائد “المجلس العسكري” في السويداء، وأُجبر على تصوير مقطع مرئي يعترف فيه بتواصله مع “هيئة تحرير الشام”، ليتم الإفراج بعدها عن الشوفي. وأوضح الشوفي أن هذا التواصل كان قبل المعركة الأخيرة، دون أن يفصح عن سبب اختطافه وآلية الإفراج عنه.
ورصدت عنب بلدي خلافًا في إحدى الكازيات بمدينة السويداء، سببه عناصر من الفصائل المسلحة بعد محاولتهم الاستيلاء على البنزين المخصص للمدنيين، وتطور لاستعمال الأسلحة بين الأطراف المتقاتلة.
وانتشر، في 3 من آب، مقطع مصور يظهر فيه اعتقال مجموعة مسلحة يحيى الحجار، قائد “حركة رجال الكرامة”، ونعته بـ “بائع الجبل”، ويترافق ذلك مع استياء في المحافظة تجاه ليث البلعوس، القيادي السابق في “قوات شيخ الكرامة”، وانتشر “هاشتاغ” على منصات التواصل الاجتماعي بعنوان “ليث البلعوس لا يمثلنا”.