الجمعة, 8 أغسطس 2025 02:12 PM

ناجازاكي: بعد 80 عامًا، ذكريات القصف النووي الذي دمر المدينة وأنقذ كيوتو

ناجازاكي: بعد 80 عامًا، ذكريات القصف النووي الذي دمر المدينة وأنقذ كيوتو

بعد مرور ثلاثة أيام فقط على قصف هيروشيما، ألقت الولايات المتحدة قنبلة نووية ثانية على اليابان في 9 أغسطس 1945. كانت ناجازاكي، الواقعة جنوب جزيرة كيوشو، هي المدينة المستهدفة، لتصبح آخر مدينة في العالم تتعرض لهجوم نووي.

بعد ثمانين عامًا على القصف الذري لهيروشيما وناجازاكي، لا تزال هذه الأحداث تُسجل كواحدة من أبرز الجرائم في القرن العشرين، مع استمرار الجدل حول الضرورة العسكرية والسياسية لاستخدام السلاح النووي للمرة الثانية في أقل من أسبوع.

في صباح يوم 9 أغسطس 1945، أقلعت الطائرة الأمريكية من طراز «B-29 Superfortress» والتي تحمل اسم «Bockscar» من قاعدة تينيان في المحيط الهادئ، حاملة قنبلة نووية من طراز «بلوتونيوم 239» والتي حملت الاسم الرمزي «Fat Man».

قبل التنفيذ، اختارت لجنة تحديد الأهداف الأمريكية عددًا من المدن اليابانية لتنفيذ الهجوم، من بينها كيوتو ويوكوهاما ونيغاتا، بالإضافة إلى كوكورا وناجازاكي، إلى أن أمر الرئيس ترومان بالتنفيذ.

كان الهدف الأصلي هو كوكورا، الواقعة ضمن مدينة كيتاكيوشو في محافظة فوكوؤكا، حيث أمر الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان بأن تُلقى القنبلة فقط عبر إسقاط بصري، أي أن يكون الهدف مرئيًا بوضوح، وفقًا لكتاب «ناجازاكي» للباحث برنارد كلارك.

إلا أن الظروف الجوية حالت دون تحقيق رؤية واضحة، فحوّل الطاقم وجهته إلى الهدف البديل: ناجازاكي، التي تضم مصانع حربية ومنشآت صناعية، بينها مصانع تابعة لشركة «ميتسوبيشي».

في تمام الساعة 11:02 صباحًا، أُسقطت القنبلة النووية فوق المدينة، وانفجرت على ارتفاع 503 أمتار، محدثةً تفجيرًا يعادل نحو 21 ألف طن من مادة TNT.

الجنرال الأمريكي كيرتس لوماي، المسؤول عن قصف اليابان، كان مصممًا على قتل أكبر عدد ممكن من اليابانيين، وأثار غضبه حجم الدمار المحدود نسبيًا في ناجازاكي مقارنة بعدد الضحايا في هيروشيما. هذا الغضب دفعه إلى الترويج لسيناريوهات بديلة لتبرير عدم قتل قنبلة «الرجل البدين» لمئات الآلاف من الناس، وكان التفسير الأكثر تداولًا هو الغطاء السحابي.

وفقًا للتقديرات الرسمية اليابانية والدراسات الأمريكية اللاحقة:

  • قُتل في الانفجار الأولي ما بين 35 ألف و40 ألف شخص.
  • ارتفع العدد لاحقًا إلى ما يزيد عن 75 ألف قتيل بحلول نهاية عام 1945 نتيجة الحروق والإشعاعات.
  • أصيب أكثر من 70 ألف شخص بجروح وحروق وتشوهات.
  • دُمّرت البنى التحتية بنسبة حوالي 40% من المساحة العمرانية للمدينة.

قائد المهمة كان الرائد تشارلز سويني، أما الطيار الذي ألقى قنبلة ناجازاكي، فكان ضابط القنابل في الطائرة، الكابتن كيرميت بيهان، وهو الذي نفّذ عملية الإطلاق.

وُلد بيهان عام 1918 وخدم لاحقًا في سلاح الجو الأمريكي حتى رتبة كولونيل، وتوفي عام 1989. لم يُبدِ أي ندم على مشاركته في الهجوم، وقال في مقابلة لاحقة إنه «قام بواجبه العسكري».

أما الطائرة نفسها، فقد أُعيد استخدامها في مهمات لاحقة، واحتُفظ بها كتذكار تاريخي في متحف القوات الجوية الأمريكية في أوهايو.

ناجازاكي لم تكن الهدف الأساسي، بل حُدّدت كبديل في حال تعذّر قصف كوكورا. ووفقًا لكيرمت بيهان، وبسبب الغيوم والدخان فوق كوكورا، فشل الطاقم في التحديد البصري الدقيق، وتوجّه نحو ناجازاكي.

إلا أن كتاب «ناجازاكي» لبرنارد كلارك يقول عكس ذلك. فقد أمضى بيهان أسبوعًا في أرشيف مكتبة الكونغرس في واشنطن، واطّلع بدقة على تقارير الطقس، واتجاهات الرياح، والأوامر المكتوبة، والمقابلات، وتقارير الاستجواب.

وبينما كان من الممكن تمييز محاولة تغطية فاترة بعد الحرب، فإن أيًا من المزاعم حول الغيوم أو الدخان المتصاعد فوق الهدف لم يكن مقنعًا على الإطلاق. تصرفات بيهان كانت إما بناءً على قراره الشخصي أو بأمر من جهة عليا. وبعبارة أخرى، لم يكن هناك أي غطاء سحابي في ذلك اليوم فوق كوكورا.

تفجير القنبلة جاء رغم أن اليابان كانت قد بدأت بإرسال إشارات عن استعدادها للتفاوض على شروط الاستسلام، وأن السوفيات كانوا قد دخلوا الحرب على اليابان في اليوم نفسه (9 آب). ما يعني أن القصف النووي لم يكن الخيار الوحيد المتاح لإنهاء الحرب.

قبل تحديد ناجازاكي ضمن قائمة الأهداف، كانت مدينة كيوتو، العاصمة الإمبراطورية السابقة، مدرجة على اللائحة المقترحة للقصف النووي.

لكن وزير الحرب الأمريكي آنذاك هنري ستيمسون، تدخّل شخصيًا لحذف كيوتو من اللائحة، بحجة أنها مركز حضاري وتاريخي عريق، وأن قصفها قد يؤدي إلى كراهية دائمة بين الشعبين الأمريكي والياباني.

ولعل السبب الذي دفع ستيمسون لسحب اسم كيوتو، يعود إلى إعجابه بتلك المدينة، بعد أن زارها عدة مرات خلال عشرينيات القرن الماضي، أثناء فترة عمله كمسؤول أمريكي في الفلبين، وانبهر بمعالمها التاريخية ومكانتها المهمة على صعيد التراث الإنساني، فضلاً عن ذلك نقل عدد من المؤرخين أن الأخير قضى شهر العسل بكيوتو عقب زواجه.

وتمكّن ستيمسون من إقناع ترومان بالتخلي عن قصف كيوتو، فاختفى اسمها من القائمة النهائية للأهداف المحتملة للقنبلة الذرية، وظهر عوضًا منه اسم مدينة ناجازاكي.

بعد قصف ناجازاكي بيومين، في 15 أغسطس 1945، أعلن الإمبراطور هيروهيتو عبر الإذاعة استسلام اليابان، في خطاب هو الأول من نوعه الذي يُوجّه فيه إمبراطور ياباني كلامًا مباشرًا للشعب. وفي 2 أيلول 1945، تمّ التوقيع الرسمي على وثيقة الاستسلام على متن البارجة الأمريكية «يو إس إس ميسوري».

وأبلغ الإمبراطور العائلة الإمبراطورية بقراره، وأشار هيروهيتو حينها في تصريحاته إلى القصف النووي بقوله: «يملك العدو سلاحًا جديدًا ومريبًا يستطيع حصد كثير من الأرواح البريئة وتدمير البلاد، فإذا استكملنا القتال، سيؤدي ذلك إلى القضاء على اليابانيين والحضارة الإنسانية ككل، وبالتالي، كيف لنا أن نحمى ملايين المواطنين من الموت المحتوم؟».

عقب استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية، انتحر وزير الحرب الياباني آنذاك الجنرال كوريتشيكا أنامي، انتحارًا طقسياً في 15 آب 1945، وكان قد وقّع وثيقة الاستسلام في 14 آب، ولكن انتحاره كان اعتذاراً عن «الجريمة الكبرى» المتمثلة في خسارة الحرب، وتعبيراً عن معارضته للاستسلام.

وتضمنت رسالة انتحاره عبارة «أنا مع موتي أعتذر بتواضع للإمبراطور عن الجريمة الكبرى». وكان أنامي عضواً بارزاً في فصيل «القتال حتى الموت» داخل الحكومة اليابانية.

بموجب اتفاقيات ما بعد الاستسلام، فرضت الولايات المتحدة وصاية مباشرة على اليابان بقيادة الجنرال دوغلاس ماك آرثر. أُقرّ دستور جديد عام 1947، تضمّن المادة التاسعة التي تنص على تخلي اليابان عن الحرب كحق سيادي، وامتناعها عن امتلاك قوات هجومية.

رغم ذلك، سمح الدستور بوجود «قوات الدفاع الذاتي» وتقديم دعم غير مباشر لحلفاء الولايات المتحدة في إطار «الأمن الجماعي». واستمرّ الوجود العسكري الأميركي على الأراضي اليابانية حتى اليوم.

تحوّلت مدينة ناجازاكي إلى رمز عالمي للسلام. أُقيم فيها متحف قصف ناجازاكي، ومنتزه السلام، وتمّ وضع تماثيل ونُصب تذكارية تُحيي ذكرى الضحايا.

ويُقام سنوياً احتفال رسمي يشارك فيه مسؤولون من الحكومة اليابانية ومنظمات دولية، إلى جانب ناجين من القصف النووي، والمعروفين بـ«هيباكوشا».

وأصبح الناجون من القصف، من أبرز المدافعين عن نزع السلاح النووي، وشاركوا في فعاليات دولية ونالوا جوائز عالمية، في حين تشارك روسيا هذا العام في مراسم ذكرى ناجازاكي لأول مرة منذ هجومها على أوكرانيا.

مشاركة المقال: