في إطار فعاليات الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، قدمت الفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة المايسترو يوسف بلهاني عرضًا فنيًا بعنوان "سهرة تونسية".
كانت "سهرة تونسية" لقاءً فنيًا مميزًا جمع أجيالًا مختلفة على خشبة المسرح للاحتفاء بالكلمة واللحن والهوية الموسيقية التونسية. فالموسيقى هي الذاكرة، والأغنية هي عنوان الهوية. الأغنية التونسية، بتنوعها وألوانها المميزة، نحتها فنانون وشعراء وملحنون عبر عقود من الزمن، ليصنعوا مجد الغناء في تونس.
هؤلاء العظماء، وإن غادرت أجسادهم، بقيت أغانيهم بصمة للتجديد في روح الموسيقى التونسية، ولا تزال نبراسًا للاختلاف، تُقدم في التظاهرات والمناسبات الخاصة والعامة. ففي سهرة 28 جويلية 2025، حضر بالغياب كل من الهادي الجويني والهادي قلال وصفية شمية وسلاف.. هي فقط أغانيهم يتردد صداها، فقد حفظها الجمهور وتفاعل معها كلما سمعها.
أغان خالدة في ذاكرة التونسيين، تتوارثها الأجيال ويقدمها كل مغن في بداياته، حتى أصبح هذا الإرث الفني عنوانًا للموسيقى التونسية. وباتت أغان مثل "كي يضيق بيك الدهر" و"ريحة البلاد" و"مِنيّرة" و"توسمت فيك الخير".. سرمدية تتجدد وكأنها كتبت للخلود.
كانت "سهرة تونسية" بمثابة اللقاء في رحاب الفرحة بين فنانين من أجيال مختلفة. قدم الفنانون، الخمسة عشر المشاركين في الحفل، كل بأسلوبه الخاص أغنية من رصيده الفني أو من الموروث الغنائي التونسي، وأحيانًا يتشارك أكثر من فنان في أداء أغنية واحدة.
أجيال اختلفت أحلامها وبداياتها في عالم الغناء تم تجميعهم بقيادة المايسترو يوسف بلهاني في عرض واحد، فأذاب بالموسيقى جليد الاختلاف وقرّب الأذواق والأصوات بطبقاتها المتعددة، فغنى كل من نوال غشام ومحسن الرايس ومنصف عبلة ونهى رحيم ورجاء بن سعيد وسارة النويوي ومنير المهدي وعماد عزيز وأنيس لطيف وكريم شعيب وفراس قلسي وسمية الحثروبي ومنال الخميري ورحاب الصغير ونجوى عمر، وعلى ركح قرطاج تشاركوا نشوة اللحظة وسحر المكان.
افتتحت الفنانة نوال غشام الحفل فغنت للجمهور "أنا تغربت"، وهي الأغنية التي كتبها الفنان التونسي سمير كمون الذي تغرب عن بلده لأربعين عامًا. وفي الأغنية يتدفق الحنين لقرطاج وسيدي بوسعيد والأجواء التونسية، أغنية تحتفل بجمال هذا البلد وكانت فاتحة السهرة التونسية. وكان لنوال غشام أيضًا الفقرة الأخيرة فغنت كوكتيل من أشهر أغانيها التي يحفظها الجمهور التونسي مثل "حبك كي القمر" و"راجيت" و"عيني يا للة"، لتفرض بصوتها القوي أغانيها التي يحفظها الجمهور التونسي.
في هذه السهرة التونسية صيغت أجمل الثنائيات، فيتشاركان الإحساس بكلماتها، فكان محسن الرايس ونهى رحيم، كل منهما ينتمي إلى جيل مختلف لكن جمعتهما الموسيقى والغناء، كما تميز الثنائي رجاء بن سعيد وسارة النويوي ومنير المهدي وعماد عزيز وسمية الحثروبي ومنال الخميري، ومنصف عبلة وفراس قلصي.
اختلفت طبقات الصوت، تنوعت طريقة الغناء والإحساس، تباينت المدارس الفنية التي ينتمي لها الفنانون من الوتري إلى الشعبي، لكنهم انسجموا في حفل واحد ودافعوا بحناجرهم عن الذاكرة الموسيقية التونسية، كانوا خير سفراء للكلمة واللحن التونسيين، تميزوا أمام جمهور له علاقة جد خاصة مع الفن التونسي تحديدًا الأغاني "الفوندو" لأنها جزء من الهوية السوسيو-ثقافية للتونسيين، خمسة عشر فنانًا غنوا، امتعوا الحضور واستمتعوا بدورهم لوقوفهم على ركح قرطاج.
للأغنية التونسية سحرها، وللموسيقى جمالياتها، حفل قرطاج كان تحت إشراف الفرقة الوطنية للموسيقى بقيادة المايسترو المبدع يوسف بلهاني، فنان تميز في مجاله، سبيله الأوحد النجاح، سبق وأن كان نجم سهرة 25 جويلية التي قدمتها الفنانة لطيفة العرفاوي، ليكون في سهرة 28 جويلية مهندس الحكاية وصانع ملامح الجمال فيها، في العرض أبدع الموسيقيين في ملامسة الروح والحفر في الذاكرة الجماعية وللجمهور قدمت مقطوعتين موسيقيتين، الأولى جمعت الثنائي هيمان كمون وأشرف ملاك على آلة الأكورديون، والثانية جمعت العازفين جوهر الهرماسي وأمير هنية على البوق والساكسوفون، كما منح المايسترو المساحة لأمهر العازفين في تونس ليقدموا "صولو" أثناء العزف الجماعي، فأبدع حسين بن ميلود في استنطاق الناي وكتب عطيل معاوية أجمل لحظات السحر على الكمنجة.
اختتمت السهرة التونسية أو الموعد مع الفرحة بأداء جماعي لأغنية "كي يضيق بيك الدهر" فكانت تحية الختام من الفنانين إلى الجمهور الذي كان في الموعد وكسب المغنون الرهان وأكدوا أن التونسي يُقبل على الفن الذي يشبهه وأن الفنان التونسي قادر على النجاح في مهرجان قرطاج، لتكون السهرة التونسية صك نجاح آخر كتبه المايسترو يوسف بلهاني صحبة الفرقة الوطنية للموسيقى وبالتعاون مع المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة.