في أعقاب تصريح حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، الذي بشر بحلول لأزمة الإسكان وتلبية احتياجات الشباب السوري، يظل هذا التفاؤل محفوفًا بتحديات قديمة تتفاقم مع مرور الوقت، لتتحول إلى معضلة حقيقية. لطالما كان تأمين السكن الملائم هاجسًا يؤرق الشباب والأسر السورية.
التجارب السابقة لحل هذه المشكلة المزمنة لم تنجح في تنظيم قطاع يعاني من فوضى مرتبطة بالسعي لتحقيق الأرباح من استثمارات استأثرت بالجزء الأكبر من الكتلة النقدية المتداولة في سوريا.
د. قوشجي: غياب نموذج السكن الإيجاري المنظم.. وإعاقة نشوء شركات إسكان وتطوير عقاري توفر عقود إيجار طويلة الأجل تتيح الاستقرار دون الحاجة للتملك
إلى أي مدى يمكننا أن نكون على أعتاب حل لهذه المشكلة المعقدة، خاصة وأن المتعهد بالحل هو رأس السلطة النقدية؟
مفارقة قديمة
يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي أن الاختلالات التي يعاني منها القطاع العقاري السوري هي اختلالات بنيوية متراكمة نتيجة لسياسات تنظيمية غير فعالة استمرت لعقود، مما أدى إلى ارتفاع غير منطقي في أسعار العقارات في المدن الرئيسية مثل دمشق، حلب، حمص، وحماة. والمفارقة أن هذه الأسعار تجاوزت مثيلاتها في العديد من العواصم العالمية، على الرغم من الفارق الكبير في مستوى الدخل والمعيشة.
تشخيص
يعزو الدكتور قوشجي جذور هذه الأزمة إلى عدة فجوات وحالات ارتكاس حقيقية اعترت سلسلة التعامل مع هذا القطاع. ويرى في تصريحه لـ "الحرية" أن أول تشخيص يمكن البدء به هو قصور التخطيط العمراني، حيث لم يواكب التخطيط العمراني النمو السكاني، مما تسبب في تقليص المساحات المتاحة للتوسع الأفقي والشاقولي، وأدى إلى حالة من الجمود العقاري وعدم قدرة السوق على استيعاب الطلب المتزايد.
الجانب الثاني هو غياب نموذج السكن الإيجاري المنظم، فقد تمت إعاقة نشوء شركات إسكان وتطوير عقاري توفر عقود إيجار طويلة الأجل تتيح الاستقرار دون الحاجة للتملك، مما جعل الملكية العقارية الخيار الوحيد عمليًا، ورفع الطلب إلى مستويات تفوق العرض، وبالتالي نشأت فقاعة سعرية غير مبررة.
كما زادت آثار الحرب والنزوح الداخلي في تعقيد المشهد، فقد أدت الحرب إلى تدمير واسع للبنية السكنية، وترافقت مع موجات نزوح ضخمة إلى المدن الكبرى، مما فاقم الضغط على السوق العقاري ورفع الأسعار بشكل غير قابل للتحقيق، خاصة عند عودة النازحين.
رؤية استدراكية متكاملة
لتجاوز هذه الأزمة، يرى الخبير قوشجي أنه من الضروري تبني نموذج جديد لتنظيم قطاع الإسكان يقوم على عدة أسس واعتبارات.
تأسيس شركات إسكان متخصصة تنفذ مشاريع متكاملة توفر مساكن بنظام الإيجار طويل الأجل.. كبديل مستدام للملكية الفردية
تبدأ بتأسيس شركات إسكان متخصصة تنفذ مشاريع متكاملة توفر مساكن بنظام الإيجار طويل الأجل كبديل مستدام للملكية الفردية. ثم إعادة هيكلة المخططات التنظيمية لتشمل توسعات أفقية وشاقولية، مع توزيع عادل للأراضي بما يحقق العدالة السكنية ويلبي النمو السكاني. واعتماد خطط تنموية طويلة الأمد لإعادة إعمار المناطق المتضررة، بعيدًا عن الحلول الإسعافية، مع توفير مساكن بأسعار تتناسب مع الدخل المحلي. إلى جانب تفعيل نماذج تمويل سكني بالشراكة مع المصارف الإسلامية، مثل الإيجار المنتهي بالتمليك، بما يسهم في خفض الأسعار وتوفير حلول عملية للأزمة.
إعادة هيكلة ..
لم يعد إصلاح القطاع العقاري خيارًا، بل أصبح ضرورة وطنية، إذ بات امتلاك سكن مناسب أمرًا شبه مستحيل أمام فئة الشباب، وتوسعت الفجوة بين العرض والطلب بشكل غير مسبوق. وبالتالي، برأي د. قوشجي، لا بد من تبني سياسات إسكانية حديثة، تنظيمية وتمويلية، تسهم في تحقيق الاستقرار السكني والتخفيف من الأعباء الاقتصادية.
تفاؤل حذر
أظهر تصريح حاكم مصرف سورية المركزي رغبة في إحداث تحول جذري عبر إطلاق هيئة للتمويل العقاري، صندوق للضمان، مؤسسة وطنية للتمويل، وتطوير مهنة التقييم العقاري، مع تمكين شركات التمويل الخاصة ضمن ضوابط واضحة. إلا أن هذه الرؤية، من وجهة نظر قوشجي، تصطدم بجملة من العقبات، أولها ضعف التشريعات القانونية والمؤسسات الناظمة للسوق.
هشاشة الثقة بين المواطن والمؤسسات المالية نتيجة لتجارب سلبية سابقة.. إلى جانب محدودية القدرة الشرائية للمواطنين
وثانيها هشاشة الثقة بين المواطن والمؤسسات المالية نتيجة لتجارب سلبية سابقة، إلى جانب محدودية القدرة الشرائية للمواطنين، مما يقلل من فاعلية أي نماذج تمويل غير مدعومة دوليًا.
شركات تطوير وتقييم ..
يطرح الدكتور قوشجي سؤالًا: هل يمكن تأسيس شركات تطوير وتقييم عقاري؟ والجواب برأيه هو نعم، ولكن وفق شروط محددة، تبدأ بإطلاق شركات تطوير عقاري تعمل ضمن مشاريع إعادة الإعمار، خاصة إن كانت مدعومة بمنح دولية أو شراكات مع منظمات تنموية.
إنشاء شركات تقييم عقاري محلية.. بشرط تأهيل كوادرها وفق معايير مهنية واضحة.. وهو ما بدأت هيئة التمويل العقاري العمل عليه بالفعل
ضرورة تنشيط التمويل المحلي ثم إنشاء شركات تقييم عقاري محلية، بشرط تأهيل كوادرها وفق معايير مهنية واضحة، وهو ما بدأت هيئة التمويل العقاري العمل عليه بالفعل. ويضيف: ما هو غير واقعي حالياً تفعيل شركات تطوير عقاري بسبب احتكار الملكية الفردية للأراضي المحيطة بالمدن وغياب بنية تنظيمية تسمح بنشوء مدن بنظام الإيجار بالإضافة ضعف امكانية التمويل طويل الأجل من القطاع المصرفي بسبب عدم استقرار سعر الصرف ومعدل التضخم.
بدائل تمويل أفضل..
الحاكم أشار إلى أهمية القروض الميسرة بدعم دولي، لكنه أكد أن الحكومة لا تنوي الاستدانة من الخارج، وهذا يطرح تساؤلاً حول مصادر التمويل البديلة. وهذا يوصلنا إلى مبدأ القروض الميسرة، التي يتساءل د. قوشجي هل ممكنة دون ديون خارجية؟ ويطرح عدة بدائل، أولها الاستفادة من صناديق دولية مستقلة مثل صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا، والذي يقدم تمويلاً مباشراً للمشاريع دون أن يسجل كدين سيادي.
وثانيها التعاون مع المصارف الإسلامية لطرح نماذج مثل الإيجار المنتهي بالتمليك، ما يخفف العبء المالي دون اللجوء للاستدانة.
ضرورة تنشيط التمويل المحلي من خلال المصارف الإسلامية ومؤسسات التمويل الأصغر.. واستقطاب منح دولية غير مشروطة من دول صديقة وصناديق تنموية مستقلة
وثالثها اعتماد التمويل المحلي التشاركي عبر التعاونيات السكنية أو البلديات.
تعويل..
لكن السؤال هنا يبقى حول ما الذي تعول عليه الحكومة؟ يرى الخبير الاقتصادي والمالي ضرورة تنشيط التمويل المحلي من خلال المصارف الإسلامية ومؤسسات التمويل الأصغر. واستقطاب منح دولية غير مشروطة من دول صديقة وصناديق تنموية مستقلة. ثم بناء هيئة تنظيمية قوية قادرة على جذب المستثمرين وتمكين القطاع وفق ضوابط واضحة. ويختم: الهدف المعلن هو نبيل ويسعى إلى إصلاح شامل، لكن تحقيقه يتطلب التمييز بين التمويل التنموي والمنح الخارجية ولابد من تهيئة البيئة القانونية والمؤسساتية لتفعيل شركات تطوير وتقييم عقاري.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية