يقول مالك صقور، مستلهماً المبدأ العلمي: "لاشيء يفنى ولا شيء يخلق من عدم". ليس من قبيل المصادفة أن يتبنى سقراط العظيم الشعار المنقوش على بوابة معبد دلفي: "اعرف نفسك".
لقد رفع سقراط هذا الشعار وشرحه وعلم تلاميذه معناه وأبعاده وما انطوى فيه من حكمة وفضيلة. ومنذ عصر سقراط وحتى يومنا هذا، كتب العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس والاجتماع كتباً تحت عنوان "اعرف نفسك" في الشرق والغرب الأوروبي والأمريكي والعالم الإسلامي والوطن العربي.
عندما أطلق سقراط هذا النداء، لم يكن يقصد أحداً بعينه، بل خاطب الناس جميعاً. وقد شرح الفقهاء المسلمون هذا الشعار وأثنوا على سقراط قائلين: "من عرف نفسه عرف ربه". فمن عرف نفسه عرف ربه، ومن عرف ربه صح دينه، ومن صح دينه استقام، ومن استقام سلم الناس من عينه ولسانه ويده.
لقد وضح الفقهاء ذلك قائلين: من عرف نفسه ضعيفاً، عرف ربه قوياً. ومن عرف نفسه عاجزاً، عرف ربه قادراً. ومن عرف نفسه ذليلاً، عرف ربه عزيزاً كريماً. ومن عرف نفسه جاهلاً، عرف ربه عليماً بكل شيء. ومن عرف نفسه محدثاً، عرف ربه الأزل القديم. ومن عرف نفسه مخلوقاً، عرف ربه الخالق العظيم.
من عرف نفسه، عرف ربه، وكان جريئاً لقول الحق، لا يخاف لومة لائم. ومن عرف نفسه، عرف ربه وأطلق فرخ البط القبيح من داخله ليصبح طائر التّم. ومن عرف ربه سيقتل القزم الحقير الذي يقبع في أعماقه، يمنعه من فعل الخير، يمنعه من المحبة، يمنعه من التسامح.
اعرف نفسك يعني غربلة نفسك، فكما تنقي الغربلة الحنطة من الزؤان والأحساك والأشواك والحصى والتراب والقشور، هكذا النفس ترمي أدرانها وتغتسل بشمس الصفاء والنقاء والنور. والغربلة هنا هي محاكمة النفس ومراجعة الذات: أين أخطأت وأين أصابت. والخطأ لا يصحح بخطأ أكبر منه، وهنا يجب الاعتذار وطلب المغفرة.
من عرف نفسه فعرف ربه، استيقظ ضميره، ونظر ببصيرته لا ببصره، وعندئذ يبقى الضمير حياً لا ينام ولا يموت ولا يهادن الخطأ. اعرف نفسك بنفسك، وحينها يعرف المرء المخبوء والمستور في أعماقه ويتصالح مع ذاته. من عرف نفسه، وعرف ربه، سيعرف حتماً إمكاناته وطاقته وقدرته وموهبته ورغباته وأمنياته وأحلامه، والأهم أن يعرف المرء حدوده. ومن يعرف حدوده، يريح ويستريح.
لقد تابع أرسطو مسيرة أستاذه أفلاطون، كما أفلاطون تابع مسيرة أستاذه سقراط. فقام أرسطو بشرح أبعاد هذه المقولة قائلاً: اعرف نفسك، وأن تعرف نفسك يعني أنها البداية نحو بلوغ الحكمة. أما الفقهاء المسلمون فقالوا: لقد صار شعار سقراط "اعرف نفسك" فرض عين على كل إنسان في كل زمان وفي كل مكان.
أخيراً، من عرف نفسه وعرف ربه يدعو: يارب علمني أن التسامح هو أسمى مراتب القوة، لأن العفو عند المقدرة. يارب علمني أن الانتقام أو الثأر هو أول مظاهر الضعف. من عرف نفسه، يردد مع السيد المسيح عليه السلام: (مَابَلُك ترى القّذَى الذي في عَيْنِ أخيك وَلا تَفْطَن للخَشَبةِ التي قي عَيْنك).
(موقع أخبار سوريا الوطن-١)