في واشنطن هذه الأيام، يعلو صوت الحرب على كل صوت، ويشتد صراع النخب للوصول إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب. بينما تطلق إيران صواريخها الباليستية، تتطاير الشرارات من منطقتنا الملتهبة، بمضائقها وموانئها النفطية وقواعد الأميركيين، نحو البيت الأبيض.
يقف ترامب على مفترق طرق، أمام قرار قد يعيد تشكيل الشرق الأوسط لعقود. يتجلى انقسام متسارع داخل معسكر الرئيس نفسه، بين تيار الحرب المدعوم بمراكز القوة التقليدية للدولة العميقة، وتيار شعبي يرفع شعار «أميركا أولاً» ويحاول منع البلاد من الانجرار إلى مغامرة إسقاط نظام جديد في الشرق الأوسط.
منذ بدء العدوان الصهيوني على إيران في 13 حزيران الجاري، تتوالى التغطية الإعلامية في القنوات التلفزيونية والصحف والمجلات الأميركية، بين مشجع للتدخل الأميركي المباشر لدعم تل أبيب، ومحذر من تكرار «كارثة العراق». مراكز تعكس أفكار الدولة العميقة، مثل «مجلس العلاقات الخارجية» ومجلة «فورين أفيرز»، سارعت إلى تأطير الموقف ضمن سردية تبرر التدخل، قائلة: «لن نبدأ الحرب، بل نتدخل لإنهاءها»، تماماً كما يرى رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو.
هذه المراكز، التي تنتج أفكار التوسع والهيمنة منذ الحرب الباردة، تروج منذ اللحظة الأولى لخطاب يعتبر إيران على وشك امتلاك القنبلة، وأن على الولايات المتحدة أن تفعل ما عجز عنه كيان العدو بمفرده، خاصة تدمير مفاعل «فوردو» المحصن تحت الأرض. لا حديث عن غزو بري، بل عن ضربات جوية «نظيفة وسريعة»، تستهدف القدرات النووية ولا تنزلق إلى «تغيير نظام» أو «احتلال»، بحسب افتتاحية لصحيفة «وول ستريت جورنال»، التي تروج لمشاركة أميركية جوية في «مسرح النصر الإسرائيلي».
يدعم هذا التيار ماكينة إستراتيجية تشدد على أن مستقبل الهيمنة الأميركية في النظام العالمي الجديد لا يحتمل بقاء دولة إقليمية مستقلة ووازنة بحجم إيران، ليس فقط لضمان بقاء الكيان الصهيوني، بل لاختراق المجال الحيوي للمنافسين عند المدخل الغربي لآسيا الوسطى والحافة الجنوبية لروسيا. يعتبر أنصار هذا التيار أن الرسالة التي يجب أن تصل إلى بكين وموسكو هي أن خطط احتواءهما وإضعافهما تمر عبر طهران.
في المقابل، يرفع تيار الانعزاليين الجدد صوته عالياً رفضاً للتورط الأميركي، ليس عبر الإعلام التقليدي، بل عبر مواقع التواصل والمنصات والبودكاستات. تتصدى لهذه المعركة شخصيات مثل الإعلامي المقرب من ترامب (حتى الأمس القريب) تاكر كارلسون، وكبير إستراتيجيي ترامب السابق ستيف بانون، وجاك هنتر وغيرهم، الذين يصرخون بصوت واحد: «لا تكرروا خطأ العراق».
يرى هذا التيار أن أميركا لا تحتمل حرباً جديدة، لا اقتصادياً ولا اجتماعياً ولا حتى على مستوى الهوية السياسية. فقد خُدع الأميركيون سابقًا بذريعة أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتحملوا كلفة أخلاقية ومادية باهظة. واليوم، لا تبدو إيران تهديداً وجودياً، بل تظهر الحرب أداة لخدمة مصالح قوى خارجية (نتنياهو) وإنجازاً لمشاريع الدولة العميقة.
تشير كل المعطيات إلى أن الصراع في واشنطن ليس فقط حول إيران، بل حول مستقبل أميركا كقوة مهيمنة عالمياً.
أحد أبرز المحاور في سردية تيار الانعزاليين الجدد هو «خيانة ترامب لمبادئه الأصلية». فالرئيس الذي صعد عام 2016 بناءً على تعهداته بالانسحاب من مستنقعات الحروب في الشرق الأوسط، يجد نفسه اليوم متهماً من داخل قاعدته الصلبة بأنه يتنازل أمام لوبيات الحرب ودعاتها. يلوح بعض رموز هذا التيار بتهديدات مبطنة، بأن أي تورط رسمي في الحرب سيؤدي إلى انقسام قاعدة ترامب الشعبية، وربما إلى انهيار سرديته في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ولا سيما سباق التجديد النصفي العام القادم. يكفي أن نقرأ نتائج استطلاع «YouGov/The Economist» الذي أُجري بين 12 و16 حزيران لفهم المزاج العام.
حتى ضمن الجمهوريين، يرفض أكثر من نصفهم التدخل الأميركي، بينما لا تتجاوز نسبة المؤيدين للحرب بين ناخبي ترامب 19%. هذا ليس تفصيلاً، وفق ما يقول ستيف بانون في نقاش نظمته معه في 18 حزيران صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور»، بل معطى بنيوي يفرض على ترامب أن يوازن بدقة بين ما يطلبه نتنياهو وما يحقق رغبة الشارع الأميركي.
في هذا السياق، يظهر ترامب كما عادته، مراوغاً ومحاولاً الإمساك بالعصا من وسطها، استعراضياً في التصريحات ومتردداً في القرار. تارة يقول إنه يطلب من إيران «استسلاماً غير مشروط»، وتارة أخرى يصرح بأنه قد يضرب وقد لا يفعل. يتباهى بأن تل أبيب نفذت الضربات بسلاح أميركي الصنع، ثم يدفع حلفاءه الأوروبيين لاكتشاف فرص العودة إلى التفاوض مع طهران. وفي الوقت الذي ينشر فيه الجيش الأميركي مدمراته وقطعه الحربية في المنطقة، تخرج ناطقة البيت الأبيض لتعلن أن ترامب سيأخذ أسبوعين ليقرر بشأن المشاركة في الهجوم على إيران من عدمها.
هنا، تتجلى معضلة ترامب. فالمعركة ليست فقط حول إيران، بل حول سرديته هو. هل هو رجل الصفقات الذي يبتز خصومه ليأتوا إلى الطاولة؟ أم هو زعيم المرحلة الذي يدخل الحرب ليخرج أميركا منها أقوى؟ الضغوط من تيار المحافظين الجدد تدفعه نحو الخيار الثاني. أما قاعدته الشعبية التي جاء منها، فتطالبه بالعودة إلى الأسس المتفق عليها: «لا حروب، لا تدخل، فقط أميركا».
إلا أن هناك من يحاول الالتفاف على تصلب تيار الانعزاليين الجدد في موقفهم، محاولاً استعارة مخاوف هؤلاء لتبرير الانخراط في الحرب. وبما أن كارلسون وأمثاله يعيدون كل شيء إلى الصين، عند تقديم المبررات التي لا ينبغي أن تدفع الولايات المتحدة إلى التورط مجدداً في الحرب، يعمد المراوغون إلى الترويج لفكرة أن إسقاط النظام في إيران ضروري لإنجاح الأهداف ضد الصين. وهناك من اقترح على ترامب تنفيذ ضربة جوية محدودة ضد مفاعل «فوردو»، من دون أن ترقى إلى إعلان حرب شامل. هذه الفكرة تروق كثيرين في البنتاغون وبعض المحافظين، وتتيح لترامب، وفق مطلقيها، أن يظهر بمظهر الحاسم من دون أن ينزلق إلى المجهول.
رغم لغته الحادة وكل النزق الذي يظهره، يتجنب ترامب الخوض في المغامرات العسكرية التي لا يستطيع التحكم بنهاياتها، وهذا ما يبدو أنه حصل في اليمن. هل يحسم ترامب خياره؟ الأرجح أنه سيحاول كسب الوقت، باحثاً عن مخرج تفاوضي يضمن له صورة المنتصر من دون الذهاب نحو الحرب المكلفة. لكنه، في النهاية، رجل قرار لا يصنع إلا تحت ضغط اللحظة. وكل ما في هذه اللحظة يشير إلى أن صراع السرديات في واشنطن، الآن، ليس فقط على إيران، بل على مستقبل أميركا كمهيمن عالمياً.