الأحد, 8 يونيو 2025 11:55 PM

سوريا: الألغام ومخلفات الحرب تحصد الأرواح وتعرقل إعادة الإعمار - قصص ناجين وجهود مستمرة

سوريا: الألغام ومخلفات الحرب تحصد الأرواح وتعرقل إعادة الإعمار - قصص ناجين وجهود مستمرة

موفق الخوجة | بيسان خلف | كريستينا الشماس

بعد 14 عامًا من الصراع، خلّفت الحرب في سوريا آثارًا مدمرة، من أنقاض وأراضٍ ملوثة إلى كميات هائلة من الألغام والمتفجرات والذخائر غير المنفجرة المنتشرة في جميع أنحاء البلاد. هذه المخلفات لا تزال تحصد الأرواح وتسبب إصابات دائمة تتطلب رعاية نفسية ومجتمعية، كما تمنع النازحين من العودة إلى ديارهم وتحرم المزارعين من استصلاح أراضيهم.

لم يقتصر تأثير الحرب على الخسائر البشرية، بل امتد ليشمل الاقتصاد الوطني، مما أدى إلى توقف الاستثمار ومشاريع إعادة الإعمار. بعد أن تصدرت سوريا قائمة الدول الأكثر تضررًا من الألغام الأرضية، عادت المؤشرات لتشير إلى تصدرها مجددًا، على الرغم من مرور أكثر من ستة أشهر على توقف الحرب.

في المقابل، تسعى الجهات الحكومية والمنظمات والهيئات الأممية إلى التخلص من هذه الأسلحة والآثار المدمرة من خلال خطط ومشاريع عملية، تشمل رصد وتحديد مواقعها ثم إزالتها، وأخرى مجتمعية توعوية تستهدف السكان والعاملين في القطاع الإنساني للحد من ضحايا الألغام والذخائر غير المنفجرة.

في هذا الملف، ترصد عنب بلدي آثار هذه المخلفات، وتروي قصص المتضررين، وتلتقي بباحثين ومتخصصين وبعض أصحاب القرار، لطرح القضية وعرض الجهود المبذولة للتخلص منها والمضي قدمًا في إعادة الإعمار وعودة الحياة الطبيعية.

آثار مستمرة.. ناجون يروون قصصهم

فقد أحمد الرفاعي (39 عامًا) قدميه إثر انفجار لغم أرضي خلال عمله في الزراعة بمدينة البوكمال بدير الزور شرقي سوريا عام 2021. لم يستطع أحمد إكمال حديثه عن لحظة إصابته وقرار الطبيب ببتر قدميه، مكتفيًا بالقول، “أن تفقد جزءًا من جسدك يعني أن تصبح عاجزًا”. قرر أحمد المواصلة ومساعدة زوجته، لكنه لم يتجاوز صدمة بتر قدميه، وازدادت حالته النفسية سوءًا بعدما فقد أخاه الأصغر منه سنًا بانفجار لغم أيضًا.

حال أحمد لا يختلف عن مؤمنة الرفاعي (24 عامًا) التي فقدت قدمها عندما زارت منزلها في درعا جنوبي سوريا، الذي كان يحتوي على قنبلة غير منفجرة. عانت مؤمنة من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب، وقررت مواصلة تعليمها بعدما زرعت طرفًا صناعيًا وتلقت علاجًا نفسيًا.

اضطراب ما بعد الصدمة

أوضحت الاختصاصية النفسية آلاء رنكوسي أن الصدمة التي يتعرض لها الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم قد تعرضهم لاضطراب ما بعد الصدمة أو حالات اكتئاب شديدة، مما يؤثر على حياتهم اليومية والاجتماعية والعملية. ويحتاج فاقدو الأطراف إلى دعم نفسي كبير للتكيف مع متغيرات الحياة، ودعت رنكوسي إلى إعطائهم الأولوية من قبل المجتمع والحكومة، بتخصيص مراكز دعم نفسي واجتماعي وإكسابهم مهارات جديدة ودمجهم في المجتمع وسوق العمل.

تأتي الألغام الأرضية على شكلين، ألغام مضادة للأفراد، وألغام مضادة للمركبات.

الألغام المضادة للأفراد محظورة بموجب اتفاقية حظر استعمال وتكديس وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام (اتفاقية حظر الألغام)، التي اعتمدت في عام 1997.

انضم أكثر من 165 بلدًا إلى هذه الاتفاقية.

وهناك انخفاض ملحوظ في الإصابات، وتزايد عدد الدول الخالية من الألغام، والمخزونات المتلفة، وتحسّن مساعدة الضحايا.

الأمم المتحدة

متطوع في \
متطوع في “الدفاع المدني السوري” أثناء عمله في تدمير الذخائر غير المنفجرة – نيسان 2025 (TNH/ حسن بلال)

آلاف القتلى

خلال سنوات الحرب في سوريا، قتل عدد كبير من المدنيين، ولم تتمكن الهيئات والمنظمات من إحصاء عدد دقيق لهم. تصدرت سوريا المركز الأول في عدد ضحايا الألغام الأرضية عالميًا لثلاث سنوات، بينما كانت في المركز الثاني عام 2023. وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 3521 مدنيًا نتيجة انفجار الألغام الأرضية منذ بداية الثورة السورية وحتى نهاية عام 2024. ووثّق “الهلال الأحمر السوري” 5,686 ضحية بين قتلى ومصابين مخلفات الحرب في 1700 قرية منذ بداية 2018 وحتى نهاية 2024.

وبحسب تقرير “مرصد الألغام الأرضية”، سجلت سوريا للعام الثالث على التوالي أكبر عدد من الضحايا الجدد للألغام المضادة للأفراد أو مخلفات الحرب القابلة للانفجار، حيث وثق التقرير 834 ضحية خلال العام 2022 والنصف الأول من العام 2023.

ازدادت بعد الحرب

انتشار الذخائر والألغام في المناطق التي كانت خطوط مواجهة عسكرية أدى إلى ازدياد نسبة القتلى من المدنيين بعد انتهاء الحرب. وبحسب الأمم المتحدة، قتل وأصيب ما لا يقل عن 1000 شخص منذ كانون الأول 2024 وحتى بداية حزيران الحالي.

أين تنتشر

تنتشر الألغام على امتداد الجغرافيا السورية، معظمها في المناطق التي كانت خطوط اشتباك مباشرة بين أطراف الصراع. وبحسب منظمات حقوقية، استخدمت جميع أطراف الصراع الألغام الأرضية دون خرائط توضح أماكن انتشارها. ونشرت “الشبكة” خرائط توضح أماكن انتشار الألغام الأرضية في محافظات إدلب وحلب وحماة وريف دمشق ودير الزور.

تعرف الألغام الأرضية المضادة للأفراد بأنها ذخائر تُزرع تحت الأرض أو على سطحها، لتنفجر عند اقتراب شخص أو مركبة منها، وتعد مخلفات الذخائر العنقودية غير المنفجرة جزءًا من هذه الألغام نظرًا لخصائصها المشابهة، حيث يمكن أن تنفجر في أي لحظة بمجرد لمسها.

“الشبكة السورية لحقوق الإنسان”

عددها بالملايين

يقدّر عدد الذخائر على امتداد سوريا بالملايين. في الشمال السوري وحده، يوجد أكثر من 200 قرية ملغمة، بالإضافة إلى أكثر من 260 حقل ألغام تم توثيقها. وتتعدد أنواع ومصادر الألغام، وأبرزها إيرانية وروسية الصنع، بالإضافة إلى ذخائر محلية الصنع مثل العبوات الناسفة التي زرعتها “قسد”.

المخلفات الأكثر شيوعًا هي ألغام مضادة للأفراد والدروع، وبعض أنواعها “الخطرة جدًا” مصنوعة من مواد غير قابلة للاكتشاف. وترتفع خطورة وجود الألغام في مناطق الغابات والأحراش.

خلال عملها، دمّرت فرق “الدفاع المدني” 28 ألف ذخيرة من مخلفات الحرب منها أكثر 23 ألف قنبلة عنقودية، وحددت 141 حقلًا ونقطة تنتشر فيها الألغام.

إزالة قنبلة عنقودية شديدة الانفجار في إدلب
إزالة قنبلة عنقودية شديدة الانفجار في إدلب-22 من أيار 2025(الدفاع المدني)

مخلفات الحرب تعوق عودة المهجرين

يرتبط ملف عودة الأهالي إلى مناطقهم بإزالة مخلفات الحرب والألغام الأرضية. المناطق التي كانت على تماس مع العاصمة دمشق، تعرضت لقصف عنيف، ما أدى إلى تدميرها بشكل كامل، كحي جوبر الذي لا يستطيع النهوض من جديد إلا بردم أنفاقه التي تحتوي على الكثير من الصواريخ والقذائف غير المنفجرة.

وفقًا لأهالٍ في حي جوبر، فإن الأنفاق تضم مستودعات ذخيرة ومستشفيات ميدانية استخدمتها فصائل المعارضة. ويرى عضو مجلس أمناء بلدية جوبر أن الأنفاق تشكل عائقًا أمام عودة الأهالي، وتتطلب تعاونًا عسكريًا للتعامل مع المخلفات.

الموت ينتظرهم مجددًا

معظم الأهالي النازحين عبروا عن تخوفهم من العودة إلى مناطقهم بسبب حوادث الإصابات والوفيات. براء الخالدي، عاد إلى سوريا وفقد أخاه بلغم أرضي في جوبر، وقرر مغادرة سوريا مجددًا.

بعض أنواع مخلفات الحرب تكون على سطح الأرض، بينما توجد أنواع أخرى منها مدفونة تحت سطح الأرض بعدة أمتار.

الذخائر غير المنفجرة مختلفة في آليتها عن الألغام، إذ إن الألغام زرعت بغرض التسبب بإصابات، بينما تكون الذخائر غير المنفجرة عبارة عن أدوات فشلت في أداء عملها.

وثقت فرق الذخائر في “الدفاع المدني السوري” استخدام نظام الأسد وروسيا أكثر من 60 نوعًا من الذخائر المتنوعة في قتل المدنيين، منها 11 نوعًا من القنابل العنقودية المحرمة دوليًا.

“الدفاع المدني السوري”

شروط العودة الآمنة

يرى مدير لجنة التخطيط العمراني وإعادة الإعمار في محافظة دمشق أن تسريع عملية إعادة الإعمار يتطلب تمشيط المناطق من مخلفات الحرب والألغام الأرضية. وتعمل المحافظة على عودة آمنة للسكان، مشيرًا إلى أن إزالة الركام دون عودة منظمة للأهالي يمكن أن تسبب بخلق أزمة عشوائيات.

أفاد معاون وزير الطوارئ والكوارث أن الوزارة في طور إعداد الاستجابة وتفعيل منظومة الإنذار المبكر، وأن كل الجهات المعنية تعمل بشكل دائم لتلافي هذه المخاطر. ويولي المركز الوطني لإزالة الألغام أهمية كبرى لرسم خرائط تحدد هذه المناطق.

تأثير على عمل المزارعين

أثّرت مخلفات الحرب والألغام على عدة نواحٍ خدمية واقتصادية، ومن هذه القطاعات الزراعة. وأوقف الخوف من انفجار الألغام عمل الكثير من المزارعين، وخسر زين الدين الهجين موسم الكمأة بعد وفاة صديقه بانفجار لغم.

فرق الدفاع المدني تزيل مخلفات الحرب في إدلب
فرق الدفاع المدني تزيل مخلفات الحرب في إدلب 23 تشرين الثاني 2024 (الدفاع المدني السوري)

تقف بوجه التعافي.. أثر على الاستثمار

يتعدى ضرر مخلفات الحرب قتل البشر ومنعهم من العودة إلى منازلهم، إلى التأثير بالاقتصاد السوري. ويرى الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر أن مخلفات الحرب من أبرز العقبات التي تقف في وجه تعافي الاقتصاد السوري، وتؤثر سلبًا على الاستثمار وسوق التأمين.

قطاعات أكثر تضررًا

ذكر الباحث يحيى السيد عمر أن القطاعات الاقتصادية الأكثر تضررًا تشمل الزراعة والإنشاءات والنقل والسياحة. ودعا إلى الاستفادة من تجارب الدول التي واجهت ظروفًا مماثلة، والاستعانة بالخبرات الدولية والأمم المتحدة.

دعم وخطط

عملت عدة جهات ومنظمات على إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة، أبرزها “الدفاع المدني السوري” ومنظمة “ذا هالو تراست” و”الهلال الأحمر السوري”. وعانت هذه الجهات من ضعف الإمكانيات والدعم.

مركز وطني مرتقب

أفاد معاون وزير الطوارئ والكوارث أن الوزارة تقوم بإعداد هيكلية للإعلان عن “المركز الوطني للتعامل مع الألغام” الذي سيعمل على تنظيم الجهود الرامية في سوريا للتخلص من الألغام والذخائر غير المنفجرة. ودعت “هيومن رايتس ووتش” الحكومة السورية والجهات المانحة الدولية إلى إعطاء الأولوية للمسح والإزالة والتوعية بالمخاطر.

فرق متخصصة

أكد معاون وزير الطوارئ والكوارث وجود فرق تدريبية متخصصة في “الدفاع المدني” للتعامل مع مخلفات الحرب، إضافة إلى فرق متخصصة في وزارة الدفاع. وتعمل الفرق المتخصصة على وضع خطط في كيفية التعامل مع الألغام والذخائر وتصنيف أنواعها وأماكن تموضعها.

دور لـ”الهلال الأحمر”

أوضح المنسق الميداني بوحدة التواصل والإعلام في منظمة “الهلال الأحمر السوري” أن هناك فريقًا متخصصًا في المنظمة يعمل بالتعاون مع منظمة الصليب الأحمر، ويدعى “وحدة الأعمال الإنسانية المتعلقة بالألغام”. ويتضمن عملها مشروع التوعية بمخاطر الألغام ومخلفات الحرب غير المنفجرة، ومشروع المسح غير التقني، ومساعدة الضحايا المتضررين من مخلفات الحرب.

تقوم فرق وحدة الأعمال الإنسانية المتعلقة بالألغام في “الهلال الأحمر” بعدة أعمال منها: إجراء تقييم للاحتياجات في المجتمعات المتضررة، وتقديم جلسات توعية حول مخاطر الألغام ومخلفات الحرب، وتسهيل وصول ضحايا الألغام إلى مراكز إعادة التأهيل، وإنشاء مساحات لعب آمنة للأطفال، وتحديد مواقع المناطق الخطرة، ودعم التعليم وحماية الطلاب من مخلفات الحرب.

برامج توعية

يركز “الدفاع المدني السوري” في برنامجه المتخصص بمخلفات الحرب والذخائر غير المنفجرة على زيادة الوعي بمخاطر الألغام ومخلفات الحرب، وذلك عبر حملات التوعية التي يقوم بها بتزويد السكان بالمعرفة والمهارات اللازمة لتجنبها.

الدفاع المدني في حملة توعوية للأطفال عن خطر مخلفات الحرب
الدفاع المدني في حملة توعوية للأطفال عن خطر مخلفات الحرب(الدفاع المدني)

توعية العمال الإنسانيين

تسعى فرق إزالة الذخائر غير المنفجرة “UXO” في “الدفاع المدني” إلى رفع مستوى الوعي لدى العمال الإنسانيين، وتجنيبهم المخاطر، خلال قيامهم بواجبهم الإنساني. ونظّمت الفرق الإنسانية جلسات تدريب وتوعية في الأمن والسلامة لعدد من المنظمات العاملة في مناطق شمال غربي سوريا.

إرشادات للتوعية بمخاطر مخلفات الحرب:

  • عدم الاقتراب من الأجسام الغريبة ومخلفات الحرب وعدم لمسها.
  • عدم الدخول لأي مكان تعرض للقصف.
  • عدم الاقتراب من الآليات العسكرية المدمرة.
  • لا تجمع مخلفات الحرب كـ”خردة”.
  • توعية الأطفال بمخاطر مخلفات الحرب.
  • إبلاغ أقرب مركز لـ”الدفاع المدني السوري” في حال مصادفة أي جسم غريب.

المصدر: “الدفاع المدني السوري”

مشاركة المقال: