تركي المصطفى: اتفاقية سايكس-بيكو: خطيئة تاريخية ألقت بظلالها على الشرق الأوسط قبل قرن من الزمان، وتحديدًا في عام 1916، خطت أقلام الرصاص الاستعمارية حدودا وهمية على خرائط الشرق الأوسط، فيما عُرف باتفاقية سايكس-بيكو، تلك الوثيقة التي لم تكن مجرد اتفاق دبلوماسي عابر، بل كانت بمثابة فصل جديد في كتاب السيطرة الإمبريالية الطويل. بريطانيا وفرنسا، بمباركة روسيا، اجتمعن على طاولة المفاوضات لتقسيم تركة الرجل المريض – الدولة العثمانية – دون أن يرف لهن جفن أمام واقع الشعوب التي كانت تعيش على تلك الأرض.
لم يكن هذا التقسيم يراعي نسيجا عرقيا، ولا تاريخا دينيا، ولا حتى إرثا ثقافيا تراكم عبر قرون، بل كان تعبيرا صارخا عن مطامع القوى الكبرى التي رأت في المنطقة مجرد رقعة شطرنج تحرّك فيها القطع وفق مصالحها الخاصة. هذا الخطأ التاريخي، الذي أقر به توم براك لاحقا في لحظة تأمل متأخرة، لم يكن زلة عابرة ارتكبتها أيد مرتعشة، بل كان قرارا منهجيا مدروسا، صيغ في غرف مغلقة بعيدا عن أعين أهل المنطقة، ليفرض عليها الانتدابات والحكم الأجنبي بكل ما يحمله من قمع واستلاب.
لقد تركت تلك الخطوط الوهمية، التي رُسمت على الرمال، ندوبا عميقة في جسد الشرق الأوسط، وألقت بظلالها الثقيلة على سوريا وجوارها، لتخلّف وراءها إرثا من الاضطرابات والصراعات التي ما زالت تتردد أصداؤها حتى اليوم. كلفت هذه الخطيئة أجيالا بأكملها ثمنا باهظا، دفعته دماء ودموعا، فيما القوى الاستعمارية تتقاسم المغانم وتترك الشعوب تواجه مصيرا محتوما بالتشتت والانقسام.
لم تكن اتفاقية سايكس-بيكو مجرد تقسيم جغرافي، بل كانت محاولة لإعادة صياغة الهوية السياسية والاجتماعية لمنطقة بأكملها، عبر خلق دول مصطنعة لم يكن لها أساس تاريخي أو جذور اجتماعية متماسكة. فالحدود التي نُحتت في تلك اللحظة لم تراع التجمعات العرقية التي عاشت جنبا إلى جنب لقرون، ولا التنوع الديني الذي كان يشكل نسيجا غنيا من التعايش، بل جاءت لتخدم هدفا استراتيجيا أوحد: ضمان السيطرة على الموارد الطبيعية والممرات الحيوية التي كانت تشكل شريان الحياة الاقتصادي والعسكري للإمبراطوريات الاستعمارية.
وهكذا، تمزقت المجتمعات، وانقسمت العائلات بين حدود لم تعرفها من قبل، ليصبح الانتماء الوطني شعورا مشوها يصعب الإمساك به وسط هذا التشظي المفروض. وفي هذا الاعتراف المتأخر الذي أدلى به توم براك، تكمن لحظة تاريخية لا تخلو من مرارة، حيث يتجلى فهم متأخر للعواقب الكارثية التي خلفتها تلك الاتفاقية. لقد كشفت هذه اللحظة عن عمق الجرح الذي أصاب المنطقة، وعن الأثر الذي لم يقتصر على جيل أو اثنين، بل امتد ليصبح جزءا من بنية التاريخ الحديث للشرق الأوسط.
ومع ذلك، فإن هذا الاعتراف، رغم تأخره، قد يكون بمثابة دعوة لمراجعة تاريخية جادة، تتيح لنا أن نفهم بشكل أعمق التحديات التي تواجه المنطقة اليوم، وأن نبحث عن سبل لمعالجة تلك الإرث الثقيل بما يحقق العدالة والاستقرار. إن ما حدث في 1916 لم يكن مجرد فصل من الماضي، بل كان بداية مسلسل طويل من الأزمات التي لا تزال تطرق أبواب الحاضر، مطالبة بوعي جديد وحلول شجاعة.
تحول تاريخي في السياسة الدولية: نهاية عصر التدخل الغربي ودور المنطقة في صياغة مستقبلها في تحول لافت، يعلن توم براك أن "عصر التدخل الغربي قد ولّى إلى غير رجعة"، وأن المستقبل ينبغي أن يكون للحلول التي تصيغها المنطقة بنفسها، عبر شراكات ودبلوماسية تقوم على الاحترام المتبادل. هذا التصريح ليس مجرد جملة عابرة تلقى في الهواء، بل هو تعبير عن تغيير عميق في المشهد السياسي الدولي، يعكس نهاية حقبة وبداية أخرى، خاصة فيما يتعلق بمستقبل سوريا، تلك الأرض التي أنهكتها الحروب والصراعات، وأثقلت كاهل شعبها بتدخلات خارجية لم تحمل معها سوى المزيد من الدمار والشتات.
فالولايات المتحدة والغرب، اللذان طالما لعبا دور المتدخل المباشر، يبدوان اليوم وكأنهما يعيدان تقييم أدوارهما، متجهين نحو موقع الشريك بدلا من الآمر، كما أشار الرئيس ترمب في خطابه بالرياض في 13 أيار. وفي هذا السياق، تبرز تركيا ودول الخليج كلاعبين محوريين، بينما يركز النهج الجديد على تمكين الشعب السوري عبر رفع العقوبات وفتح آفاق الازدهار والأمن.
جذور التدخل الغربي وإرثه المرير لطالما كان الشرق الأوسط مسرحا لتدخلات القوى الكبرى، منذ أن وضعت اتفاقية سايكس-بيكو بصماتها على خريطة المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث رسمت حدود لم تراع نسيج الشعوب ولا تطلعاتها. كانت تلك الخطوط المصطنعة بمثابة بذور لصراعات لم تنته، تفاقمت بفعل التدخل الغربي المستمر، سواء عبر الاستعمار المباشر أو من خلال دعم أنظمة تابعة تخدم مصالح الخارج على حساب الداخل.
في سوريا، تجلى هذا الإرث في عقود من الاضطرابات، حيث كانت الأزمة الحالية امتدادا طبيعيا لتاريخ طويل من الصراع بين إرادة الشعوب ومطامع القوى الخارجية. لكن التجارب المريرة في العراق وأفغانستان، وما خلفته من دمار وفوضى، بدأت تفرض على الغرب إعادة تفكير في جدوى هذا النهج.
تحول في الاستراتيجية: من التدخل إلى الشراكة اليوم، يبدو أن هناك إدراكا متزايدا في الولايات المتحدة وبين حلفائها بأن التدخل المباشر لم يعد خيارا عمليا أو مستداما. فالاقتصادات الغربية تواجه تحديات داخلية، والرأي العام في تلك الدول أصبح أكثر تشككا في المغامرات الخارجية. وفي هذا السياق، يأتي تصريح براك كإشارة إلى تحول استراتيجي، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى دعم السوريين من موقع الشريك لا الآمر.
دور تركيا ودول الخليج: قوى إقليمية صاعدة في خضم هذا التحول، تبرز تركيا كلاعب رئيسي في المشهد السوري. لقد فتحت أبوابها لملايين اللاجئين السوريين، في خطوة تعكس التزاما إنسانيا وسياسيا كبيرا، رغم العبء الاقتصادي والاجتماعي الهائل الذي رافق ذلك. ومن جهة أخرى، تقدم دول الخليج، بقيادة السعودية والإمارات، دعمًا ماليا وسياسيا يعزز نفوذها في صياغة مستقبل سوريا. هذه القوى الإقليمية، بمواردها وطموحاتها، أصبحت شريكا لا غنى عنه في أي حل مستقبلي، مما يعكس انتقال مركز الثقل السياسي من الغرب إلى المنطقة نفسها.
تمكين الشعب السوري: نهج جديد أم خطاب فارغ؟ الأبرز في هذا التحول هو التركيز على تمكين الشعب السوري عبر رفع العقوبات وفتح آفاق الازدهار والأمن. بعيدا عن الجنود والمحاضرات والحدود المفروضة، يبدو هذا النهج وكأنه محاولة لتصحيح مسار طويل من السياسات الفاشلة. رفع العقوبات، إذا تُرجم إلى فعل ملموس، يمكن أن يعيد إحياء اقتصاد منهك، ويمنح السوريين فرصة لإعادة بناء حياتهم داخل وطنهم بدلا من التشتت في المنافي. لكن السؤال الملح يبقى: هل هذا التحول حقيقي، أم أنه مجرد خطاب يخفي استمرارية المصالح الاستراتيجية القديمة؟ التاريخ يحذرنا من التفاؤل الزائد، فالقوى الكبرى نادرا ما تتخلى عن أهدافها بسهولة.
المستقبل: فرصة تاريخية أم تحدٍ جديد؟ في النهاية، يمثل هذا التحول فرصة تاريخية للشرق الأوسط ليصيغ مصيره بيده، بعيدا عن هيمنة التدخل الخارجي. لكن نجاح هذه الفرصة يتطلب من القوى الإقليمية أن تتحمل مسؤوليتها، وأن تعمل بتناغم لتحقيق الاستقرار والازدهار. فالشعب السوري، الذي دفع ثمن الحروب والصراعات، يستحق أن يرى نورا في نهاية النفق، وأن يكون له صوت في بناء مستقبله. وإذا نجح هذا النهج الجديد في تحقيق ذلك، فقد يكون بداية لعصر جديد، حيث تتجاوز المنطقة إرث الماضي وتفتح صفحة من الأمل والكرامة.