كشف المؤتمر الصحفي لعضو اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي حسن صوفان، والمتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، أثر توالي أخطاء السلطة الانتقالية في إدارة البلاد. على الرغم من أن المؤتمر كان مخصصًا للحديث عن إطلاق سراح عدد من الموقوفين من ضباط الجيش السوري السابق، إضافة إلى “إعطاء الأمان” لشخصيات مثل “فادي صقر”، وتبرير وجودها ضمن مسار السلم الأهلي بحجة “أهمية دورها في تفكيك العقد وحل المشكلات”.
برز ترسيخ الحكم بعيدًا عن سيادة القانون، بدءًا من اختيار وزيرين، على التتابع، من خلفية شرعية لا حقوقية، إلى الأخطاء البنيوية التي ظهرت في المؤتمر الصحفي، من استخدام مصطلحات غير قانونية كـ”إعطاء الأمان” بدلًا من العفو الرئاسي المنصوص عليه في المادة “40” من الإعلان الدستوري. وهذا “الأمان” لا يُسقط دعوى الحق العام، ولا يحجب حق الضحية عن رفع دعوى شخصية بحق من شملهم “الأمان” أمام المحاكم السورية، وأن التحقيقات التي أجرتها وزارة الداخلية مع من أفرجت عنهم لاحقًا، بعد تبرئتهم، هو تعدٍّ على القضاء صاحب الحق في التوقيف والتحقيق والإفراج. علاوة على ذلك، فإن اللجنة العليا للسلم الأهلي تغولت بدورها على دور هيئة العدالة الانتقالية التي شُكلت بمرسوم رئاسي في 17 من أيار الماضي.
وفي نفس الصدد، فإن صوفان وقع بتناقض خلال حديثه في المؤتمر الصحفي، فقد اعتبر أن لجنة السلم الأهلي وهيئة العدالة الانتقالية تسيران في مسارين متوازيين، وفي نفس الاتجاه وبحالة تناغم وتوازن، لكنه وبنفس الوقت حدد بأن الأسبقية هي لمسار السلم الأهلي. لا شك في وجوب ارتباط المسارين ببعضهما، ودعم كل منهما الآخر، لكن تبرئة مجرم كـ”فادي صقر” (فادي مالك أحمد) أحد كبار قياديي ميليشيا “الدفاع الوطني”، وتبييض صفحته، وإعطائه دورًا مركزيًا في “السلم الأهلي” بعيدًا عن مسار العدالة الانتقالية في معرفة الحقائق والمحاسبة وجبر الضرر وغيرها من الأركان الرئيسة، أسهم بتآكل الثقة في إمكانية تحقيق العدالة لمجتمعات ضحايا في ظل الحكومة الانتقالية وسياساتها، وخاصة بعد أن حُصرت مهامها، أي مهام هيئة العدالة الانتقالية، في جرائم النظام الأسدي، وبذلك تكون حرمت ضحايا باقي أطراف الصراع من العدالة ومعرفة الحقيقة وجبر الضرر، وطمست جرائم وانتهاكات، ومنعت بناء ذاكرة وطنية، وأسست التمييز بين المواطنين الضحايا، رجالًا ونساء بتنوعاتهن، بناء على هوية مرتكبي الجرائم، وأنكرت ما وثقته منظمات حقوق الإنسان وسرديات الناجين والناجيات على مدى 14 عامًا، وجذرت الانقسام والتشظي المجتمعي.
وعلاوة على ذلك، فإن السلطة الانتقالية استفزت الضحايا وأسرهم، وقوضت أهم الأسس التي تقوم عليها العدالة الانتقالية، وهي محورية الضحايا في المشاورات ورسم الخطط والبرامج ومراقبة تنفيذها، واحترام كرامتهم وأولوياتهم وآرائهم، وأرغمتهم، وعموم السوريين والسوريات، على مشاهدة مجرمين يتمتعون بالسلطة والنفوذ، وحشرت الكثير من المواطنين، نساء ورجالًا، ممن تعاونوا مع النظام البائد، من أعلى الهرم إلى أدناه، سواء من هم في سوريا أو ممن يرغبون بالعودة إليها، بتسوية أوضاعهم وتبرئتهم وحمايتهم، عبر مجرمي حرب أصبحوا وسطاء وممرًا نافذًا إلى السلطة الحالية، باسم “السلم الأهلي” وهو باب مشرع على الفساد والإفلات من العقاب.
وفي هذا المقام، لم يطلعنا صوفان في المؤتمر الصحفي على أعمال لجنة السلم الأهلي، التي اعتبرها أعمالًا غير قابلة للقياس، وعما تقدمه اللجنة لمجتمعات الضحايا، وبطبيعة الحال أيضًا، يحق لنا أن نسأل أعضاء اللجنة الثلاثية هل ينجح مسعاهم في تحقيق السلم الأهلي في ظل استمرار الجرائم والانتهاكات بحق المدنيين من منبت علوي، والتي يتم توصيفها بالحوادث الفردية، وأجبرت الكثيرين منهم، نساء ورجالًا، على الحد من تنقلاتهم مقابل توخي السلامة؟ وماذا عن مشاركة السياسيين منهم والشخصيات ذات المصداقية، والتي لها مكانتها في سوريا، في بناء السلم الأهلي بدل الاعتماد على أشخاص ارتبط اسمهم بنهج القتل والانتهاكات كصقر وغيره، أو خالد الأحمد المستشار السابق للمخلوع بشار الأسد، وزميل صوفان في اللجنة المذكورة! وكان بإمكان الإدارة الانتقالية تخفيف العقوبة عن صقر وغيره مقابل معلومات تفيد تحقيق العدالة وبناء السلام المستدام كتحديد المقابر الجماعية والاعتراف بالجرائم والاعتذار من الضحايا.
يعود تخبط السلطة الحالية في إدارة المرحلة الانتقالية، إلى النهج الاستبعادي المنغلق على الخبرات السورية المتعددة من غير لونها، وبضمنها العدالة الانتقالية، الأمر الذي يعزز الانقسام المجتمعي، ويزيد من قلق الضحايا والحقوقيين والمسيسين والناشطين، من النساء والرجال، من الإجراءات التي تتخذها الحكومة في هذا الصدد، والتي تؤسس لدولة الرعية لا دولة المؤسسات والقانون.