تستمر معظم المدارس الخاصة في دمشق وريفها بفرض رسوم تسجيل باهظة، يصفها الأهالي بأنها "خيالية"، مما يجعل الحصول على تعليم جيد حلماً بعيد المنال للعديد من العائلات ذات الدخل المحدود. هذا الوضع يثير جدلاً واسعاً حول دور وزارة التربية في الرقابة والتنظيم.
في إحدى ضواحي دمشق، وجد مصطفى، وهو أب لطفلين عاد مؤخراً من الشمال السوري إلى ريف دمشق، نفسه مضطراً للبحث عن مدارس خاصة بعد أن استنفدت خياراته في المدارس العامة المكتظة والتي تعاني من نقص في المقاعد. يقول مصطفى: "صُدمت من الأسعار، فبعض المدارس تطلب سبعة ملايين ليرة سورية في السنة مع المواصلات، بالإضافة إلى خصم مبلغ كبير في حال الانسحاب في منتصف الفصل بسبب حجز المقعد. هذا أمر غير منطقي ويتطلب تدخلاً حقيقياً من مديرية التربية".
رفاهية مدفوعة الثمن
تشير شهادات أولياء الأمور إلى أن بعض المدارس الخاصة تقدم خدمات عالية المستوى، سواء من حيث البناء والأنشطة أو جودة الكادر التعليمي، مما يجعلها وجهة مفضلة للعديد من العائلات. ومع ذلك، يأتي ذلك مقابل أسعار باهظة لا يستطيع المواطن العادي تحملها.
مدير إحدى المدارس المشهورة في دمشق، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أقر بأن القسط للصف الأول حتى الرابع يصل إلى 13 مليون ليرة سورية شاملة المواصلات والكتب واللباس، بينما يرتفع إلى 14 مليون ليرة سورية لطلاب الصف السادس. وبرر ذلك بأن "الموظف الحكومي لن يستطيع تحمل هذه الأرقام، لكن العامل في القطاع الخاص ممن يحقق دخلاً يومياً مرتفعاً – مثل التجار أو أصحاب المهن الحرة – قد يجد هذا القسط مقبولاً إذا ما قارنه بتكاليف الدروس الخصوصية التي سيتكبدها في حال وضع ابنه في مدرسة عامة".
تسعيرة الوزارة… حبراً على ورق؟
على الرغم من سعي وزارة التربية إلى تنظيم التعليم الخاص عبر تصنيف المدارس إلى أربع فئات وتحديد سقوف للأقساط تتراوح بين 525 ألف و2.45 مليون ليرة سورية حسب المرحلة والفئة، إلا أن معظم المدارس تتجاهل هذه التسعيرة. وفي الوقت الذي حددت فيه الوزارة أن قسط المرحلة الثانوية في الفئة الأولى لا يتجاوز 2.45 مليون ليرة سورية، تطلب مدارس في دمشق وريفها ما يفوق خمسة أضعاف هذا المبلغ، بحجج تتعلق بتحسين جودة التعليم ورفع رواتب الكوادر.
ويؤكد المدير ذاته أن وزارة المالية كانت في زمن نظام الأسد تتقاضى نسباً مرتفعة من أرباح المدارس وصلت إلى 30%، كما تم تصنيف المدارس والمشافي ضمن فئة "كبار المستثمرين" إلى جانب المصارف الخاصة، وهو تصنيف يعتبره مجحفاً بحق القطاع التعليمي، وسبباً في رفع الأقساط أو تقليص الخدمات.
جدل بين تنظيم السوق والاقتصاد الحر
الخلاف لا يتوقف عند حدود الأسعار فقط، بل يتعداه إلى فلسفة التعليم الخاص ودوره في العملية التعليمية. فقد تم في وقت سابق عقد لقاء جمع مدير تربية ريف دمشق فادي نزهة ومدير التعليم الخاص محمود فرهود مع عدد من أصحاب المدارس، جرى فيه النقاش حول حرية التنافس بين المدارس وترك الخيار للأهالي، لكن هذا التوجه لم يدم طويلاً.
خطة غير معلنة
رغم تعهدات وزارة التربية بوضع خطة لتنظيم التعليم الخاص، إلا أن الرد الذي تلقته منصة "سوريا 24" من الوزارة عند الاستفسار عن المستجدات لم يكن واضحاً، واكتفى بالإشارة إلى أن هناك خطة قيد التنفيذ دون تقديم تفاصيل أو جدول زمني.
يقول مدير المدرسة: "في عهد نظام الأسد المخلوع، هناك مدارس قسطها 25 مليون ولا أحد يجرؤ على محاسبتها لأن صاحبها ضابط أو من شبيحة النظام، بينما مدارسنا تتم ملاحقتها باستمرار"، مضيفاً أن التسعيرة التي أعلنتها وزارة التربية للعام الدراسي 2024-2025 ما هي إلا امتداد للقرارات التي وُضعت أيام النظام السابق، ولم تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الاقتصادية الحالية.
المعلم الحلقة الأضعف
من أبرز التحديات التي تواجه المدارس الخاصة هي رواتب المعلمين، إذ يقول أحد المديرين: "أكبر بند من نفقات المدرسة هو رواتب الكادر. لا يمكن أن أطلب من المعلم أن يعطي أفضل ما لديه إذا لم يحصل على راتب يكفيه للعيش. اليوم أقل أجار بيت يتجاوز المليون ونصف ليرة سورية، فكيف نطلب من المعلم أن يستمر؟". ويخشى كثيرون أن تؤدي محاولات ضبط الأسعار بصرامة إلى مغادرة المعلمين الأكفاء البلاد، مما سينعكس سلباً على جودة التعليم في المدارس الخاصة والعامة على حد سواء.
العقارات تلعب دورا في رفع الأسعار يُعزى الارتفاع الكبير في أقساط المدارس الخاصة بدمشق، لا سيما في ضواحيها الغربية، إلى الارتفاع الجنوني في أسعار الأراضي والعقارات، ما يجعل من تأسيس مدرسة جديدة أمراً بالغ الكلفة. يوضح أنور عوض، مدير إحدى المدارس الخاصة، أن أسعار الأراضي في تلك المناطق وصلت إلى ما بين 3 و4 ملايين دولار في المتوسط، وتزيد تكلفة المدرسة مع شراء الأرض عن 10 ملايين دولار في حال كانت الأرض ذات موقع جيد.ويضيف أن تجهيز مدرسة تتسع لنحو 1000 أو 1050 طالبًا يتطلب استثمارات ضخمة، تبدأ من تكلفة الأرض ولا تنتهي بالبناء والتجهيز والتشغيل. هذا الواقع العقاري الخانق لا يشجع على المنافسة أو دخول مستثمرين جدد إلى قطاع التعليم الخاص، خاصة في ظل غياب الشراكات والدعم، ما يؤدي إلى قلة العرض وارتفاع الطلب، وبالتالي إلى ارتفاع الأقساط. كما يشير عوض إلى أن بعض الجهات تسعى لاحتكار السوق ومنع الآخرين من شراء الأراضي أو تأسيس مدارس منافسة، الأمر الذي يعمّق الأزمة أكثر. في ظل هذه المعادلة، تصبح المدارس القائمة مضطرة لرفع أقساطها من أجل تغطية التكاليف التشغيلية المرتفعة، وتحقيق الحد الأدنى من الاستدامة المالية. ويستشهد عوض بتجربته السابقة في الشمال السوري، حيث كان يدير مدرسة خاصة في مدينة عفرين، مبينا أن القسط السنوي فيها لم يتجاوز أربعة ملايين ليرة سورية فقط. ويؤكد أن هذا الفارق الكبير في الأقساط لا يعود إلى اختلاف مستوى التعليم أو نوعية الخدمات، بل يرتبط أساسًا بتكاليف التأسيس والتشغيل، وفي مقدمتها أسعار العقارات. "في عفرين، الأرض رخيصة والتكاليف معقولة، لذا يمكن تقديم تعليم جيد بقسط منخفض"، يقول عوض، مشددًا على أن غياب البيئة الاستثمارية العادلة والمتاحة للجميع في دمشق هو ما يفاقم أزمة التعليم الخاص ويرفع كلفته على الأسر.
يبقى واقع المدارس الخاصة في دمشق وريفها ملفاً شائكاً يتقاطع فيه البعد الاقتصادي مع الاجتماعي والتربوي. وبينما ترى الوزارة أن تنظيم التعليم الخاص ضرورة لضمان العدالة، يرى أصحاب المدارس أن الاقتصاد الحر والمنافسة هي مفتاح تحسين الجودة. في هذه المعادلة، يبقى الطالب وولي أمره هما الطرف الأضعف، في ظل غياب آليات واضحة لضبط الأسعار دون التضييق على الكوادر أو حرمان الأسر من خيار التعليم الجيد.